الجمعة، نوفمبر 30، 2012

في رثاء المرح


محمود ياسين

تدور صاحب تضحك ولا تكاد تجد.

الناس كلهم يشتوا يقعوا خطيرين. هذا صديق من أيام ما كان عادي يشتي يعيش ويدور أصحابه باحثاً عن الرفقة، وليس عن دور كما هو حاصل له هذه الأيام، تلقي أمامه بدعابة ذكية فيحك رقبته مكشراً: "تقول إيش غرض المشترك من البيان الأخير؟". الله ينتقمك أنت والبيان الأخير. وبودي لو أنتزع يده وهي تضغط على رقبته وكأنه مالكولم وهو يحاول التخلص من ضغوط جماعات السود المتطرفة قليلاً، بينما هو يعاني في الحقيقة من ضغوط البواسير، وليس بيان المشترك هو ما يضغط على صديقي المكشر. يحتسي الشاي بالحليب وكأنه زعيم عمالي محبط يحتسي البيرة الرخيصة في إحدى حانات لندن، منتصف القرن الماضي.

قبل أن أغادر يائساً يرفع رأسه قائلاً: "هاه قصدك الجزر"، محاولاً بذلك لفت انتباهي لكونه قد فهم النكتة التي ليس فيها أي جزر. يتعذر التواصل بين جموع المتخاطرين على خطورة تسيس جماعي هبط على بلادنا هاتين السنتين، ويكاد الناس يكرسون وجودهم لهذه الحالة المزعجة، وكل واحد كان يتصل من السعودية يسألني عن الذرة والشام، وأخبار البلاد من تزوج ومن مات، دون أن يغفل تزويدي بآخر رقم وصل إليه سعر الصرف، وكان في الأخير أحياناً ينهي المكالمة بالجملة الرائعة: "طولت عليك يا أستاذنا". أمست الجملة الأخيرة من المكالمات المرهقة هذه تخرج من بين أسناني التي أكز عليها متصابراً على طول المكالمة السياسية، وهو يبين لي موقفه من كل طرف سياسي على حدة، دون أن يغفل بالطبع الحيثيات المضنية التي بنى عليها موقفه هذا. أحدهم ينهي كل موقف خلص إليه بجملة "هذي شهادة للتاريخ". لعنة الله على التاريخ، وعلى من أدى لك رقمي. وكلما حاولت مقاطعته بحديث عن أن الصحيفة تتصل تريد مقالتي للغد، لا يدعني أقول له ذلك العذر، ويظل يردد: "إذا سمحت لي.. إذا سمحت لي". الله لا سامحك ولا عصب رأسك بسلامة، وأصرخ: "الصحيفة يشتوا المقاااااال".. فيرد: أنا عادنا في البداية. بينما أكون قد وصلت للنهاية، وبودي لو أحظى بما تبقى من مزاج الناس قبل جديتهم الرهيبة هذه.

الآن فهمت لماذا قال صديقي، ونحن في البوفية: "هاه قصدك الجزر"، كتعليق اضطراري منه على نكتة عن واحد كان يحط سيجارتين بفمه، ويدخنهما الاثنتين، مفسراً السبب على أن أخاه في السجن، لذلك يدخن حبة له وحبة لأخيه السجين، وبعد أيام رأوه يدخن سيجارة واحدة، فقالوا: هاه خرج أخوك من السجن؟ قال: لا أنا بطلت التدخين.

بينما كان الجزر موضوعاً لنكتة رويتها لصديقي هذا قبل أسبوع، أشعلت سيجارة ومضيت أقلب ذهني على دنيا مسائية خالية من أي مرح، ولا يعود أمامي إلا إدمان الجلوس أمام الكمبيوتر بحثاً عن قفازاتي التي أرتديها لأدخل "فيسبوك" مثل عامل في مزرعة نحل، مع أنه لا عسل البتة في هذه الخلية الافتراضية.

يمكنك التهابل في وضعية كهذه، ورواية نكات لنفسك، ومشاهدة برنامج عن حياة النحل، وتتأمل في أكثر أنشطة الكائنات تلقائية، بما في ذلك الأفلام الهندية، بحثاً عن سذاجة ملامسة هذا العالم. ذلك أنه لا أشد وطأة من تكريس الإنسان وجوده لهول الحذاقة الأشبه بوضعية جلوس إنسان يعاني عسر هضم، ويريد من الآخرين أن يحبوه. لا أحد يحب المتقلص الذي يخفي شيئاً، ويذكرك وجوده بدنيا تتقلص فوقك.

لم يعد أحد ليكترث لما أستعيده دائماً في أكثر عروضي الرثائية لأيام زمان ومرح زمان ومسرات زمان، وكيف كان الناس قابلين للتواصل. ذلك أن الكتابة الرثائية للمرح وأيامه هي شكل من شكوى اكتئابية إضافية. ولقد كنت أكتب مقالات فكهة بدون عناء، وها أنا أكتب عن المرح دون أن أكون مرحاً البتة، حتى إنه خطر لي أن يكون لهذا الموضوع رسالته المهمة، ووضعه في سياق جملة المغترب الذي يتصل بي؛ "هذه شهادة للتاريخ".

لقد تلقى تاريخنا الطازج، خلال العامين المنصرمين، أرتالاً من الشهادات التي لن يجد التاريخ الوقت الكافي، ولا المزاج الملائم لفحص شهادات أمة من المكتئبين.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق