محمود ياسين
هناك فخ لعين يهمس لك أنك لن تكون حقيقياً إلا بوصفك كائناً تراجيدياً يتألم.
تلك التحديقة في قاع العين، وتتألم أكثر،
وتتعامق فرحاً بتوحدك المتعذب مثل كائن بريختي (برتولت بريخت) لا يكون موجوداً إلا
بوصفه كائناً مستلباً تجاه الناس والأشياء.
كريم الصبيحي هذا اللعين لفت انتباهي لشغفي
بفخ التراجيديا الذي أتلوى فيه، وبلهجة تفصح كم أن كريم هذا على درجة من الكرم مع دنياه
وخصوماته النفسية، ذلك أنني ضحكت من تعليقه حول ما كتبته لـ"الأولى" عن تقدم
إخوان اليمن وتأخر الليبراليين. فقال بتهكم وملعنة: "أعطنا الفرصة، مثلما تقدم
الإخوانيون بانتقدم عليهم، مسألة وقت مش أكثر"، وكأنني جالس على دكة الحكم أقرر
من تقدم على من، ومن تأخر.
بالعودة لفخ المتألم العميق وعيناه تومضان
بجاذبية من وصل التخوم ويرى الأقاصي، ويخترع بالتالي أعماقاً في شخصيته، باحثاً في
ضياح طفولته عن أطفال ضائعين مبعدين، وزعقات جن، مستخلصاً من هذا النبش الوجودي ترياقه
الكافي للإبقاء على حزنه العميق الذي سيشفيه أكثر من انفعالات المرح والكرم النفسي،
باعتبار ذلك المرح شكلاً من سطحية تتهدد وجوده العميق.
حتى في هذا التعامق التراجيدي يكمن سعي
ما لأن يروق هذا الكائن للفتيات المولعات بجاذبية اليائس الرومانسي.
الحياة سلسلة فخاخ، وها أنا على مدى شهور
وأنا سياسي ومحلل لا يشق له غبار، ولا أكاد أتوقف عن تحليل عبد ربه، وتحليل أماكن تموضع
المعسكرين، وبودي لو أسمع صوتاً يقول لي "لعن الله المحلل والمحلل له"، وكأنك
فقط تحولت إلى رجل ثقيل مستقيم وطنياً، عليه تلبية متطلبات شخصيته التحليلية هذه، وبلا
كلل تتعلم كيف ترضخ للتعايش مع كلمات يابسة، وبعضها أشبه بقطع غيار مستخدمة، لتكتبها
وتضعها في التحليل، ولم تكن نسبة كبيرة من مفردات مقالات الشهور الأخيرة تشبهني بحال،
حتى الجملة هذه كنت على وشك أن أصف الشهور بكلمة المنصرمة بدلاً من الأخيرة.
اللغة إن كانت هي كل الذي لديك فلتشبهك،
وهذا هو المهم على أنها صوتك ولن تكون أكثر من نشرة دوائية في حال كرست صوتك للتحذيرات
الوطنية، وأنا لست عاقلاً أصلاً، ولطالما كرهت المعقلة، ولو على الأقل بسبب من أنها
تجعل تفضيلاتي وخياراتي أقرب لذوق رجل على مشارف الستين، يتأنق بتؤدة، ويفضل الكوت
الأسود والثوب الأبيض، ويقلقه قبل أن ينام هاجس ألا يكون ثاقباً يتحلى ببصيرة نافذة.
كنا نتواجد بالتناقضات، ويمتطي أحدنا سحائب
دنياه متهكماً وعلى أهبة الاستعداد للهزيمة والمرح.
ما هو الكاتب إن لم يكن تلك الحالة النهمة
للمزيد من عروضه المدهشة والارتجال الوجودي بهلوانياً ومتماجناً لا يمكن لكتاباته إلا
أن تروق (حد وصف كمبروفتش لنفسه).
قال لي أحدهم يوماً "مع محمود ياسين
نصفق للأسلوب وليس للفكرة"، وأظنه هو من ورطني في الفكرة ومقاربات السياسة، ثم
إنك لا يمكن أن تكون أنيقاً وخفيفاً وكامل الضربات وأنت تكتب عن أقوياء صنعاء هذه الأيام.
ذلك أن لا أحد يمكنه أن يكون جذاباً وهو يكتب عن الماكينات الصدئة التي ترفض التوقف.
لدينا جمهور متطلب من المتابعين للسياسة،
(وما الذي سيفعله علي محسن، وما الذي ينويه حميد، وكيف سيتصرف الرئيس هادي).
والحياة مع هؤلاء القراء، يشبه نضج الحياة الزوجية،
أو أنه تسرب مرحك الأصيل في ما يشبه ابتلاعك للطعم.
على أن فخ العميق المتألم الذكي، وجاذبيته
الرومانسية، هي فكرة المقالة أصلاً، وإذا بي أتحدث عن السياسة أثناء ما ظننته نقداً
للكتابة السياسية. يبدو أننا قد سبحنا بعيداً عن حلاوة الروح، وأن كل الذي بقَي لأحدنا
هو إصدار بيان عن أنه لم يعد بوسعه إصدار البيانات.
ما نعايشه يومياً في "فيسبوك"،
هو حالة أنجزها "فيسبوك"، أو أنه أتاح للجميع فرصة البوح المأساوي والرومانسية
المتكلفة.
لطالما رثيت النهايات، وكتبت نعياً، وكنت
أريد أن أقول (نعيات)، إذ لا أدري ما هو جمع نعي، كتبت أكثر من نعي لذاتي، وكيف أنني
سأتوقف في دنيا لا تعطي شيئاً سوى الوحدة، وفي اليوم التالي أستيقظ متسائلاً عن الراتب
وأين سنلتقي، وبودي لو أتأنق باحثاً عن زجاجة "ليبدوز" عطري المفضل.
ومظهراً في كل مقيل خجلي وتواضعي الشديدين
أمام الإطراء، مع أنني في حقيقة الأمر أود لو يستمر في إطرائي بلا توقف. وفي المساء
تكون التراجيديا في انتظار عودتي على باب العمارة نصعد متشابكي الأيدي. وما هي إلا
لحظات حتى يتم تزويدك بكل لوازم القعدة المسائية العميقة، غير أنني أتمكن أحياناً من
أن أهمس لنفسي: ابحث لك عن حياة جديدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق