محمود ياسين
هذه الأيام، وأثناء هذا الشد والجذب مع الذين ضحكوا علينا في صنعاء، تحضرني كل ضحكات مدرسة النهضة وعتاة المشاغبين من إب القديمة، وكيف أنني لطالما بذلت جهودا مخلصة لأكون مشاغبا منهم، وقريبا من مزاجهم الاستعراضي الفكه، حيث كانوا جذابين للغاية وهم يتندرون على المدرس الأردني الأدوع، لأنه من أصول فلسطينية، هو أقنعنا بذلك من خلال توتره ومبالغاته الفلسطينيتين بكونهما سببا لدواعته وغرابة أطواره، إذ كان يقضي الحصة كلها يوقف أغلب الفصل بحثا عن المتسبب في اللااحترام الذي يشعر أننا نقوم به ضده. لا تدرون كيف كان ذي يزن أحمد مثنى يلعب الكرة في ملعب النهضة، كان الفتى يرقص في المباريات، وكانت مشاهدته يلعب متعة لتملي الحضور الإنساني الأنيق لابن مدير المرور.
قبل 3 سنوات صافحت مدير المرور في إحدى
قاعات صنعاء، معزيا في ذي يزن الذي استشهد في صعدة.
من كان يخطر له أن كل تلك العذوبة والأناقة
في النهضة، ستلتحق بالكلية الحربية، وأن ذي يزن سيلعب في صعدة وحيدا بلا جمهور ولا
رفقة، وأن لعبته الأخيرة كانت مع الموت.
ونحن في صالة العزاء ومدير مرور إب في الثمانينيات
يتلقى التعازي في صاحبنا، تساءلت بغباء أو سذاجة؛ أين يعمل أحمد مثنى الآن؟ وأخبرني
جمال الهجوة أن والد ذي يزن مدير أمن ريمة. لم يستنكر جمال تساؤلي الغريب هذا أثناء
ما كان يذرف الدموع، محدقا في صورة ذي يزن المثبتة على جدار الصالة. كنا نحب ذي يزن
كلنا، كنا نحبه وندور حوله، بينما كان جمال صديقه الحميم، والذي كان على الدوام يرفع
إصبع التحذير ضد أية محاولة للنيل من ابن مدير المرور، باعتباره متعاليا أو فخوراً
زيادة بأبيه الضابط الذي كان أيامها قد أصدر روايته "هموم الجد قوسم". لا
أدري ما الذي تبقى من النهضة الآن؟
صادفت الأستاذ العلاية مؤخرا في بوفية الشهاب
بمركزي القات، وأخبرته أنني قد أصبحت صحفيا، وبلكنة أردت من خلالها أن يشعر بجدوى أيامه
التربوية، وأنني أحد إنجازاته. كانت عيناي تفيضان وأنا أتملى وهن المدير في أيامه الأخيرة،
حتى إنه لم يتنبه ولم يبدُ عليه اهتماما يذكر بكوني أنا تلميذه قد أصبحت صحفيا. لمحت
عتبا صامتا في طريقة مغادرته للبوفية، تلك المغادرة التي تمكنك من رؤية الياقة الخلفية
لبدلة قديمة يرتديها تربوي فقد شيئا من علاقته الجيدة بأيامه التي كانت، وبما تمثله
فكرة التربية إجمالا.
أصبح خالد الأنس موظفا بفرع البنك التجاري
بإب، ولم يحقق حلمه في الهجرة إلى أمريكا، كان يحلم بيننا، ويجعلنا نصغي لحلمه الأمريكي
ذاك أثناء ما كان يسرق أقلامنا في الفصل. وبين حلمه وسرقة الأقلام، كان خالد يطور مهاراته
في تأليف الموسيقى التصويرية، يدندنها بفمه العريض. كان لدخول مدرس الكيمياء الرهيب
المتوعد، موسيقى تحذيرية يطلقها خالد من بين شفتيه اللتين لا تتوقفان عن الابتسام،
ناهيك عن موسيقى التهام العلاية لصبوحه، وموسيقى خيبتنا التي يدندنها لنا بعد سرقة
الأقلام. محمد البعداني هاجر إلى السعودية، وأصبح توفيق تاجر جملة، وقد ورث مهنة أبيه
ودكانه تحت نادي الشعب.
أما شلة المدينة القديمة، الذين كانوا يصلون
بالمشاغبة حد الفانتازيا، فلا أدري كيف استخدموا هزأهم من الحياة في حياتهم العملية،
ولا ما الذي آل إليه أمر "حصاءتهم"، "الحصاءة" التي نعرفها في
التثاقف بالكياسة، ذلك المزاج الحاذق الذي يصل إلى أقاصي الحوار بين أهل إب القديمة،
وقد صقلوه وطوروه بالمران، وكأنه رأسمال شخصي مهم، ناهيك عن جاذبية الحصاءة وأهميتها
في كفاءة اللعب على الكلمات وتجنيسها، ومنحها وظائف مبتكرة مغوية.
الرواني بباب الجديد في رأس السلم الحجري،
والتخزينة ببيت مدير المرور عند ذي يزن، وكانت الأيام تلك لا تدري أن زمنا لاحقا سيحاول
توظيفها في مقالة تجهد في استنباط حكمة أو رؤية أو أي شيء يشهد من ذلك الماضي على هذا
الحاضر، من خلال مصائر الطلبة والمدير.
لا أدري ما الذي تبقى من مزاج إب المرح،
بالغ الأناقة.
بعض من أعرفهم لا يزال مصرا على معاودة
مقيل الشيخ عبدالعزيز الحبيشي، واختراع نكات إبية ينسبونها للشيخ عبدالعزيز، من قبيل
الحفاظ على اسم الحبيشي وبقائه، وكأنهم يحاولون إطالة عمره الفكه، حتى لا يعترفوا أن
إب قد تغيرت، فيعملون على إبقاء الحبيشي مرحاً كنوع من مقاومة الكآبة التي تتهدد مزاج
إب العظيم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق