الثلاثاء، يناير 15، 2013

اغضبوا قليلاً


محمود ياسين

الاسترخاء لا ينسجم والموقف لأجل حياة الناس، إذ عليك أن تحتدم لتبصير الناس بالذي يحدث من وراء ظهورهم، وأنا لا أريد فقدان الأمل بهذا الشعب، رغم أن كل الذي يقوم به منذ الثورة الى الآن، مخيب للآمال، واستسلامي، ويفصح عن أن شعبنا مسكين للغاية، وراضٍ بالتعب اليومي، ومتعود على ترك الساسة يتلاعبون بمصيره ورزقه، وفرصه في الحياة على نحو مرضي يكاد يدفع أحدنا لليأس والتوقف عن الكتابة عندما يشعر أنه مغنٍّ جنب أصنج، أو أنه يؤذن بالحركب، ويصيح بضاحة ما فيهاش حتى جن يجاوبوه.

المتابعون للصحافة هم هم المشتركون في تدويخ هذا البلد، والاستمرار في في التلاعب به. ساسة يتابعون الصحف، وحزبيون هم في الأخير مع قرارات الحزب، والبقية مثقفون حزانى لا تواصل من أي نوع بينهم وبين الناس، ولا أحد منهم مستعد للعب دور غاندي، ولا أي من المتمردين الذين قادوا شعوبهم لتمرد ضد نمط الحياة، وضد الإذلال اليومي، ولا أحد من جيل الشباب مستعد لتفجير غضبه والانفجار بوجه الجميع، ويقول: "لا أشعر بالرضا".

عملية الاستنهاض التي قد تغوي كاتبا أو مثقفا، تحتاج لغضب جماعي في صدور الناس، وما عليه إلا نزع الصاعق ليتحول الناس من الصمت والاحتقان الى الفعل وتهديد استقرار السياسيين المستريحين في العاصمة.

لست مدعيا أو واهما لأرثي صوتي العظيم الذي لم يسمعه أحد، ولم يعد هناك من الطاقة ولا الوهم ليلعب أحدنا دور النبي المنبوذ الذي يردد: "فستذكرون ما أقول لكم"، كل ما هنالك أن كل شيء يفصح عن أن هذا الشعب قد استسلم لقدره، مكتفيا بخيبة الأمل، والتوقف عن تصديق من يبشرهم بحياة أفضل، أو من يناديهم لخروج كبير. هناك سبب جوهري لهذا الموت الهائل، وهو أن الناس عندنا ليسوا وجوديين، ولا يستفزهم وجودهم المهين، ولا ينشدون حرية الكائن. كم مرة سمع أحدكم إنسانا يمنيا يدور حول نفسه، ويحشرج: "أنا إنسان"، ذلك أن عقيدة الحياة الحرة النابضة تحتدم بإحساس المرء بالرضا والكرامة، هي في اليمن الوثنية الوحيدة التي بلا أتباع ولا مؤمنين، يؤمن الناس هنا بالعاقل والشيخ وأمين المحل ومدير الناحية والحاذق، ويؤمنون أيضا أن الله يعاقبهم باستمرار، وأ كل الذي يتعرضون له من خوف ووجل وقلة قيمة وخذلان وخيبة أمل، هو من الله، وليس من السياسيين، والحاذقون يعتقدون أن كل المتاعب من السياسيين وحدهم، بينما نعاني فعلا خليطا من التخلف والوهن الذهني والوجودي، وقلة الخبرة الحياتية في مجال تعريف الحرية وحق الإنسان في الامتلاء بآدميته.

تمر كل يوم وتصادم أكتاف موتى في طريقك، خائفين متوجسين يحدقون بلا احتدام ولا استعداد لرفض هذا كله.

بودي لو يغادر صاحب البسطة في الحصبة، مخاوفه من البلدية والبرد، وتلف معروضاته البسيطة، وتلف كبده وأعصابه، ويرجم الفرشة مغادرا الى حيث يمكنه أن يعمل بحارا أو قرصانا في مضيق باب المندب. وسأحترم هذا المتسول الذي يريق آدميته على نوافذ السيارات، ويسيل بقايا روحه على الزجاج الذي يرتفع أمام وجهه، ويغادر ليقطع الطريق في العمشية، فذلك أشرف لي أنا الذي يراقب المهانات والخنوع الجماعي لحياة لم تعد تصلح حتى كخرقة في حمام عام بلا ماء. شباب دائخون متملقو عائلات وحظوظ ووظائف ورزق، رهنوا وجودهم لمعيار الجهالة يذلهم كل يوم، ويدوس على عمرهم الغض في محيط يمط شفتيه بوجوههم كمن يريد أن يبصق في وجهك بتهمة قلة الرجالة، وليتك تقول لهم لست أداة ولا حيوان اختبار، أنا إنسان، وأنتم قذفتموني إلى ميدان الحياة أعزل حتى من حقي في الغضب، وها أنتم الآن تنكرون حقي الآدمي في الحزن والإحساس بالظلم السياسي، لتلقوا بفضلات عجزكم على رأسي أنا الوحيد المتضرر. تبا للعائلة وللوظيفة والرجالة في عالم كهذا الذي يفتقر لشرف الاستياء النبيل.

رضوخ جماعي للجور في البيوت، وفي العوالم الداخلية لأناس لا يدرون لماذا يتعرضون لكل هذا العسف اليومي. تذكروا فقط كيف تصرف قاسم مع خاله الذي رباه يتيما، وكان يؤذيه ويكلفه حمل القذارة، ويقسره على الرجالة قسرا، وذات يوم أراد منه تركيب البلت على عجلة القلاب، والبلت صغير، وقاسم يحاول ويتعرق، وخاله فوق رأسه، وفجأة غضب قاسم وصارخا: "موش عله"، ورجم بالمفك على القلاب وعلى الخؤولة والقسر والمعقلة الغبية، راكضا خلف حريته التي وجدها في أمريكا بعد تشبثه بعشرات المراكب التي تقاذفته في محيطات العالم. ومن هناك تمكن من احترام ذاته، والحصول على نفسه كاملة، وأصبح قادرا حتى على العفو ورثاء مجانية الأذية الإنسانية في عالم البؤس الذي غادره، وأرسل لخاله أول إشارة لفوزه من ضفاف حريته، قائلا: لقد سامحتك.

عليك أن تغضب لتتمكن من غريمك، وعندها فقط يمكنك أن تمنح الغفران لنفسك والآخرين.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق