الخميس، يوليو 11، 2013

معسكر تعز


محمود ياسين

أنا في تعز الآن، أحس أن المثقفين التعزيين في مدينتهم وكأنهم أشباح الفيلق الثقافي السياسي في صنعاء .

أدور في شوارع ضيقة، يدفعني الفضول للتعرف على شارع جمال لأكتشف حقاً أن المميز في الشارع ليس ما كنت أظنه، مآثره المدنية العمرانية، أو ذكريات لأناس أعرفهم في صنعاء من تعز، وكانوا هنا يغازلون بشارع جمال، ذلك أن المغازلة في جمال صنعاء، أما جمال تعز فاتضح بجلاء أنني أبحث فيه عن طلل ولا رائحة، وأنني كنت أبحث عن فرع البنك التجاري لأستلم راتبي.

الجميع يتزاحمون على شباك موظفة البنك "ليلى" وأحد عملاء البنك يسألها عن حالها ولماذا غابت وكأنها ابنته، وليلى أكثر من مجرد موظفة مجتهدة، ذلك أنها تعرف أسماء أغلب المتزاحمين على شباكها البنكي متسائلة عما الذي تريده يا عم علي، ووقع هنا يا حاج محمد، وروح أعمل صورة للجواز يا أستاذ، ولم أفكر أنها تقرأ صحيفة "الأولى" بقدر ما أحسست بحاجة الناس لمن يهتم لهم، وكأن ليلى سلوك نسوي متحضر لا يصدر بيانات من أي نوع، وإنما يجعل من شارع جمال كله على قدر من الالتزام والألفة.

أمر من أمام القصر الجمهوري المهجور، متسائلاً عن حسرة الرئيس السابق من فكرة أنه لم يعد بوسعه تجاوز هذه الكتل الخرسانية الصفراء، لا بموكب ولا بصمت.

هكذا أنا أفكر أحياناً، حتى أني اعتقدت أن القصر الجمهوري في تعز هو أكثر ما يؤلم علي عبدالله صالح.

لا أدري كيف لامس الثوار هذا القصر، ولا ما أن كانوا قد تظاهروا أمامه، أم قذفوه بالحجارة أم بالبوازيك، عندما تطورت الثورة إلى حالة بازوكية  اقتحمت دماغ تعز بعنف، وفي المقابل على التلة الصغيرة القريبة من القصر الجمهوري المتثائب هناك قصور بنات هائل، لا أدري لماذا تجمعن هناك تحديداً على هذا النحو الأشبه بمزاج "أهل الجنة" في سورة قرآنية، حيث الترف الممتعض من فهم المارة وصبرهم.

أنا بالطبع ولوهلة حلمت أنني صاهرت بيت هايل عندما حدقت في القصور، ذلك أن الحياة في تعز رغم تمثلها لهذا البيت والنظر إليه كنموذج للخلاص البسيط، غير أن بيت هائل منحوا الكثيرين جزءاً من هذه الفرصة الربحية العظيمة التي بقيت تضفي على شخصية تعز شيئاً من هويتها الحاذقة بنكهة البسكويت، ولقد تشارك بيت هايل جزءاً من ربحيتهم ورفاهيتهم مع تعز على هيئة وظائف وما شابه.

المهم أنه في صنعاء تنقصك تعز القات الصبري ومفرق ماوية، ولا تلمح أحد المشارعين الشهيرين من صبر، ولا تلامس ثمرة من وادي الضباب، إذا احتشد المثقفون في العاصمة بشخصية من عليه تمثل النقيض لمزاج صنعاء القبلي، وعندما يعودون وما إن يتجاوزون الحوبان حتى تستعيد نزعاتهم الأصيلة وجودها ويتم تفعيلها آلياً، لذلك تشعر في تعز أنك تدور في مؤخرة المعسكر التعزي الذي في صنعاء، وأنهم هناك يتبادلون شجن الطارئ ومقاومته للنفي ويتبادلون البيانات، وعندما يعودون يتبادلون مزايا مزاجهم التعزي الخالص من "المشارعة" الى "المخافسة" ولهج الربح، وانتهاء بتبادل إطلاق النار كعادة اعتنقوها مؤخراً على حساب ثورة لم يبق منها غير المليشيات، وأدخنة نفسية تنبعث من يوم محرقة لا أدري لماذا تجنبت السؤال أو محاولة الوصول إلى حيث اشتعلت.

إذا مضغت القات في واحدة من غرف جبل صبر ستحدق في المدينة متسائلاً: أين صحيفة الجمهورية؟

هذا لأننا نسأل أحياناً عن الذي يفترض به قريبنا كصحفيين، غير أن هذه المؤسسة سواء بسمير اليوسفي أو غيره، أنجزت حالة استيحاش مع صحفيي تعز ومزاجهم المولع بفكرة النقد ودأب النيل من السلطة، فحرمت الجمهورية أغلبهم من التواجد المسترخي المنسجم مع وظيفته النقدية، لتتحول المؤسسة إلى ما يشبه متعاوناً أمنياً متحمساً.

أما أنا فأسأل طيلة الوقت: أين مقر الحزب الاشتراكي؟ فلطالما أخبرني فتيان المقر كم أنني صديقهم في صنعاء.

أتساءل أيضاً أثناء التحديق في مدينة تشبه تضاريسها وكتلها "نفر كرس" حد وصف أبناء المدينة، أتساءل عن "أين يقطن فلان"، وأين تراه بيت سعاد القدسي، وأين بيت أقارب جمال أنعم القدسي أيضاً، تلح على قدس كلما مررت بكتلة المدينة مستحضرة معها الناصرية المريرة وعيسى الهائل.

عيسى الذي بقي بعد رحيله قادحاً للمزاح التعزي الحذر في صنعاء وهو يبذل مجهوداً مضنياً للنفاذ إلى قلب الخيار السياسي دون أن يدفع ثمن تميزه كونه لم يتوخَّ الحذر.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق