السبت، مارس 01، 2014

خريطة جديدة لأمراضنا القديمة


محمود ياسين

بدأ صديقي الشرعبي يتحدث عن تاريخ التحاق إب بتعز منذ القدم، راقتني "منذ القدم"، ونحن لا زلنا في بداية تكوين مناطقي، وصديقي يمزج الهزل بالجد، في تمرير مزاج الإلحاق، وأنا شخصيا لا أضمر مناطقية للتباهي والتمترس أصلا، إذ يبدو لي مؤخرا أنني من صنعاء، ولا أفكر بمغادرتها إلى الإقليم، ولست مهتما كثيرا بلقبي الجديد: "الجندي"، إذ إن الأقاليم ستبقي لكل منا لقبه ومشاكله وضروب ضعفه وخذلاناته من دنيا تواجد فيها بلا دولة، وهو يمني على أية حال، لا ترعاه غير حذاقته وانتماءاته المناطقية والإثنية، ولم تكن الدولة يوما هي أم أحد، غير أبناء الرئيس وطاقمه المحظوظ، سواء كان هذا الطاقم سنحانيا، أو من بيت الدنبوع.

تمر بي أشواق أبو بكر سالم، وهو يغني "أمي اليمن"، وأستحضر كل تلك الألحان الجذلة لأصوات تدين بمزاجها الانتمائي لفكرة اليمن الوجداني، اليمن الذي بلا جماعات ولا ضغائن، حيث لا يحضرك أي طقم شاص من طقوم بيت الأحمر المثقوبة، وأنت تناجي بحة صوت كرامة مرسال "ما أجمل الريح هبت من رياض اليمن، فيها شذى العطر من صنعا ومن عدن.. هيجتني وهزتني لدوره، هيجتني وما أرضى بغيره، من رياض اليمن هبت النسمة لمشتاق، الهوى راق". في الفؤاد بلادك نسمات وأبواب وشرفات وطرقات أليفة، ومدارب سيل لا تميز انثناءاتها بين سيل من إب وآخر من مطلع، حيث التباس الجغرافيا في رأسك وليس في السيل، ولا في وجدانك المتلقي لما هو شرعبي بذات النكهة لطعام الصبوح في حبيش، دون أن تتفحص هوامش المجلدات بحثا عمن كان أولا، ومن تم إلحاقه بالآخر، ولا متى أصبحت إب محافظة مستقلة عن تعز كما يقال. إن ذلك الاستقلال كان تلبية لمأزق كثرة أولاد الإمام، وحاجة أحدهم لقضاء إب بعد قضمه من تعز.

صديقي الذي أشار للإلحاق التاريخي، مثقف كبير وناضج، وكان بدرجة ما يتفاكه مستفزا ما يروقه من ردات فعلي الغاضبة بمرح كلما اقترب أحدهم من فكرة الاعتداد والاستقلالية، وأنا بدوري منحته ردة الفعل الانفصالية (إبياً)، وبما يكفي لأن يقهقه جيدا، غير أن قهقهات المثقفين أحيانا هي جوهر أمراضنا، وقد تمت مظهرتها بالتنكيت.

ونحن نتبادل وجوم المغرب في الصحيفة، دخل علينا مجموعة ناشطين متحمسين، قالوا إنهم وصلوا للتو من المهرة، معلنين استعدادهم الالتحاق بنا؛ أهل صنعاء، وأنهم سيقاتلون، ولا يتم وضعهم مع الحضارم. وكان واضحا أنهم يضمرون للحضارم عدائية لها علاقة بما ترسب من تاريخ تماس أشبه بتلك الضغائن المتكونة بين قريتين تتلامسان وتتلاسنان بالمباهاة وإطلاق شائعات سيئة. أما نحن فبقينا واجمين؛ ذلك أنه في المغارب يفقد أحدنا أية طاقة لتبيان موقفه من عرض مغرٍ كهذا الذي يمكن اعتباره فرصة سانحة يمكن اهتبالها لتضخيم صنعاء على حساب كراهية المهرة لحضرموت.

لا أحد يجزم بالطبع أن المهرة كلها بذلك الحماس العدائي الذي وصل به أولئك الناشطون، لكن ثمة تفهماً لهذا النوع من عروض المفاصلة الإقليمية، من تحسس كل منا لأمراض منطقته ذات الصلة، وهو سيدرك أن الأقاليم الجديدة سترتب مسابقات لإحن المباهاة والمفاضلات، وقد تنمو في هذه المزاجية المشحونة حالة ما من حب اليمن الكبير؛ اليمن بوصفه عودة للجذور التي قد يحن إليها الناس بعد اشتمامهم لعفن جذورهم الضيقة التي احتسبوا بسذاجة سياسية أن استعادتها تمثل حلا سحريا، سيخلص كل مجموعة مزاجية من خصم أثقل كاهلها في السنوات الأخيرة، دون التنبه إلى أن الحياة في الضيق الجغرافي الجديد ستكون هي الخصم.

هناك حقائق لا يمكن القفز عليها بالأقاليم، فنحن نعرف أنه، ورغم تمركز مصانع بيت هائل في تعز مثلا، غير أن النسبة الأضخم من أرباحهم تجنى في صنعاء، ولقد تركزت أغلب أسباب الربح لفكرة رجال الأعمال في صنعاء، وللفرص الصغيرة حتى، ومنها فرصة الدور السياسي أيضا، والثقافي لعدد كبير من أبناء الريف الباحثين في صنعاء عن مكان تحت الشمس، الأمر الذي أضفي عليه وكأنه فقط تمركز سياسي عصبوي تمت مقاومته بالمرضية المناطقية، وليس بالبحث عن سبل توزيع الفرص.

لا أدري ما إن كانت هذه الإقليمية ستغير من إحساسي تجاه انثناءات نقيل سمارة متهاد في الطريق إلى قريتي بإحساس وطني جديد ومختلف كلية عما ألفته من أرق العائد المسائي بنكهته اليمنية الخالصة.

لا أظن الأمر يتجاوز استجابة، ولو بدرجة ما، لانفعالات المظلومية المناطقية، تلك المظلومية اليمنية المميزة عن باقي بلاد الله، ولو على مستوى أنها متواجدة في كل منطقة، ضمن إرث شعبوي وجداني رتب عليه السياسيون مواقف أنين الأطراف يتحدثون عنها من القلب؛ من العاصمة، ويعتاشون عليها.

لا أدري كيف يمكن لماء إب أن يستجيب فورا لحميمية الإقليم الجندي، وينساب هكذا نحو عطش تعز، وكأن ما كان يعوقه فقط ليتدفق، هو التعريف المناطقي العائلي، حيث يمكن أن يطمئن لأن ماء العائلة واحد. هي كانت إخفاقات دولة أو سلطات محلية، ما جعلت تعز عاطشة على ذلك النحو. أما إقليم عدن، فهل سيرتب لخيارات جنوبية مفتتة بعض الشيء، أو منفصلة عن خيارات الإقليم الشرقي؟ وهل ستطمئن الحديدة لحقها الحصري في البحر، راضية بالحصر في التسمية الذي قد يمكنها من التحايل على عمومية الموارد في بند الدولة الاتحادية؟ أهذا هو ما سيجعل الحديدة تنسى صوت الشاعر التهامي: "البحر إندنا والجمارك لكم.. كل شي إندنا آيداته لكم"..؟


لا أظن. نحن فقط ثبتنا عاهاتنا التاريخية على إحداثيات خارطة رسمت بارتجال، دون التنبه لأن الحوثي قوي أصلا، ومندفع دون أن يحتاج من يرسم له في الخريطة مساحة لطموحه، حيث وضعت ذمار وصنعاء وعمران وصعدة ضمن لقمة واحدة يعتقدها الخائفون مذهبيا على مقاس الحلم الحوثي، وذلك حصر لطموح الحوثي وللمخاطر في جهة واحدة، ذلك أن أفواهاً كثيرة تسعى بنهم لالتهام جزء من ارض اليمن.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق