الأحد، يونيو 13، 2010

كل تواصل في هذه المنطقة هو بين رجل وماضيه

محمود ياسين

هل هناك طريقة للتواصل مع القراء بدون ذكاء، كأن أحدثهم عن "مهرجان كان" السينمائي مثلاً. وبغير إيضاحات عن علاقة الهوس بين الفنانين وجزر أمريكا الجنوبية. أحدثهم عن تلك الجزر، غير أن كل محاولة للتواصل تتحول إلى عملية إيضاحات رجل لكأنه كان نجيباً جداً وأصبح عليه أن يبدو ذكياً على الدوام. حتى إن القراء لم يعودوا يفهمون ما نقوله كلية إذ إنه من العسير إدراك مرامي رجل لا يسعه التواصل بغير ذكاء ونفاذ بصيرة..

لم نتمكن حتى الآن من تبصيرهم بشيء، من صعدة إلى أسباب الغضب الجنوبي..

يصبح العالقون في المشاكل أذكياء رغم أنوفهم، وأكثر حصافة من الحديث عن مهرجانات النبيذ أو الطماطم ومصارعة الثيران، بينما تواجه البلاد، أو تمر بمنعطف خطير، وهي دائماً لا تكف عن المرور بهذا المنعطف. ناهيك عن شغف البعض بفكرة "البلاد على مفترق طرق"، وكنت استخدمت فكرة مفترق الطرق هذه بدايات الذكاء مع مدرس سوداني أيام الثانوية، كنت أعني السودان بمفترق الطرق، وكيف أنه إما أن يقرر الإسلام أو اعتناق المسيحية..

كان الرجل مختلفاً عن بقية السودانيين الذين عرفناهم. إذ لم يكن يرتدي حذاء من جلد الثعبان، ولم يصادف أن تباهى بكونه لا السوائل إلا اللبن، أو أن السودان سلة غذاء العالم. أصلح فقط وضع نظارته وتساءل ببساطة: من أين تلقيت هذه المعلومة؟ تلك النبرة المحترمة لرجل قد خبر التهويل، والحياة على حساب التحليلات الكارثية والقاطعة لحياة المجتمعات وخياراتها.

لا أذكر من أين تلقيت تلك المعلومة، ولم يكن المدرس السوداني هو من علمني درس الحديث والتواصل مع الآخرين بغير تحليلات سياسية عميقة، فهو لم يغير مجرى حديث مفترق الطرق هذا إلى فلكلور قبائل الزولو أو شلالات فيكتوريا.. كل ما هنالك أنه كان متخففاً من السودان الخطير الذي لاشك تربطه علاقة ما بحسن الترابي.

كل تواصل في هذه المنطقة هو بين رجل وماضيه على هيئة ذكرى من نوع كقصتي مع المدرس السوداني مثلاً، أو فهم (أحدنا) الكامل لبعض من إخفاقاته وخيباته الأكثر جلاءً من خلاصات العمل في إخفاقات الأزمة.

يبقى ما هو شخصي أميناً أكثر، حتى إن كتابة مقالة عن الشغف الشخصي بفكرة رحلة إلى القمر سيكون أمراً حقيقياً أكثر، مع بعض الإيضاحات بالطبع، كالحديث عن الفيلم الوثائقي الذي تضمن تفاصيل الرحلة الأولى والرجل الأول الذي رفع العلم الأمريكي على سطح القمر،

وكيف أن الروعة لم تكن في رؤية أرض القمر، بقدر ما هي رؤية كوكب الأرض من سطح القمر..

إنه لمن المدهش حقاً أن تسمع رائد الفضاء ذاك وهو يقول إنه عليك أن ترفع رأسك لترى الأرض من هناك كوكباً أزرق معلقاً في العتمة اللانهائية، لتتساءل من على بعد أكثر من مائتي ميل: أتلك دياري؟ هل هناك أناس يتحاربون حقاً؟

لست هنا لأتساءل عن إمكانية الكتابة عن الطبخ، والتمادي في ذلك حدَّ العلاقة بين النكهة والرغبات الجنسية. ذلك سيحدث يوماً ضمن اكتشافنا المتأخر طرائق مختلفة للتواصل بيننا وبين تفاصيل حياتنا، وكيف أن غالبية أبناء أمتنا أمضوا حياتهم بغير إحساس يذكر بطعم الأشياء وروائع الجسد.

القارئ هو الآخر منمط لتلقي هذا الالتباس في تحليلات الجغرافيا السياسية.. بعضهم يعيش على هذا التقدير من القراء، على أن الشهرة أحياناً هي حصيلة سوء فهم بين الكاتب وقرائه.

وإن كنت أقلل الآن من شأن سوء الفهم هذا فهو استخلاص ربما لعلاقة قراء أدب العبث والمعقول وكتَّاب هذا النوع من الأدب.

الواقعية هنا ستبقى في تواصلنا الرئيسي والممل من خلال مشاكل الناس ذاتها.. نحن نضفي عليها مسحة مذلة إذ لا أحد مستعد للتواصل والإصغاء لرجل يسرد مشاكله في مقالة فيها الكثير من المهانات وضروب الإذلال. إنه يعاني مشاكل وجوده لو يقرأ مساندة ما بغير تجريح في كرامته، أو أنه مثلاً يعيش كأية حشرة..

الاحتمال الذي كان يجدر بهذه المقالة الحديث عنه أكثر هو حديث شخص عن دنيا غيرت البعيدين تحديداً. على أن دنيا الجيران فيها رزق وأرز وأجهزة مستوردة، وهذا لا يكفي لتواصل الشغف الذي ينقصنا.

أظنه سيكون أمراً رائعاً دفع قروي نحو التفكير في مهرجان الطماطم أو مصارعة الثيران وهو يفرك يديه.

منشورة بتاريخ سابق في صحيفة الشارع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق