الجمعة، أكتوبر 08، 2010

عنف التواصل

محمود ياسين

يبدو أن العزلة شرط الوجود فعلاً , لكن من يمكنه احتمال ثمن فادح كالعزلة ليشعر بوجوده؟!
لطالما شعرت بقصة رجل يجلس في ركن مكتبة بعد إقفالها .. يجلس وحيداً، ليس في العتمة بقدر ماهوجالس فحسب يضع يديه على طاولة عارية وهو يرتدي قميصاً نصف كم .. قميصاً بلا خطوط، ولا نلمح وجه الرجل بقدرما نلمح خطورة توصيفه الشخصي للوجود وهو يتمتم الآن فحسب أدركت العزلة باعتبارها الشرط القاطع والمرير للوجود...
هذا يعني ذهاب أحدنا الى الأ قاصي سعياً وراء وجوده, التخلي عن كل الأصدقاء,التخلي المبدئي عن"كيف يبدو أحدنا للآخر"؟ وليس الأمرهنا في التوقف الفوري عن أي محاولة للانسجام والتواصل مع الآخر,كأن تجلس صامتاً مثل عبدالكريم الرازحي وهو يتمرن بصمت على طيبة القلب بينه وبين نفسه, ويحاول في ذات الوقت ومن خلال الصمت دفع الآخرين في مقيله لليأس من الرازحي القادر على الإضحاك أو الإدهاش. هوفقط يتخلص من كونه مجرد مقالة فكهة تمضغ القات الى جوار أناس تورطوا في محاولة ملامسة المقالة الفكهة. يتخلى عبدالكريم عن التواصل دون ان يتمكن من التخلي عن الناس.
كل تواصل يدور حول التبرم من اللاجدوى,العلاقات إدهاش متبادل بين المثقفين, يفضي إلى قطيعة.
نعرف جميعاً الشعور بعدم الارتياح عندما يبدأ أحدهم بسرد نكتة تدرك كم أنه يبذل فيها مجهوداً هائلاً لجعلنا نضحك.
إنه المجهود الهائل- القطيعة- ليس باعتبارها خياراً وجودياً, بقدر ماهي ثمرة ظن التواصل..
يدخن سامي غالب سجائر كثيرة أثناء تفانيه في حماية ذاته من ذلك الظن. ويتصرف مثل رجل معقد من الترهات وكأن الترهات قد تسببت بمقتل عائلته.
لذلك يحدق باستعطاف عميق إزاء أي محاولة لإدهاشه, ويخلص إلى أنه قد تمكن اليوم من الصمود الاستراتيجي في حماية ذاته من جلبة تواصل ينال منه مثل ذكرى صادمة.
ويخلص الآخر إلى كياسة سامي وذلك النوع من توصيفات آلهة الحصافة وما شابه...
حينما لايكون موجوداً في طريق النكتة, يتساءل عن موطن النكتة وكأنه يعد بحثاً عن الفكاهة؛ ذلك أنه يحاول الوجود فحسب مع سامي غالب. ويظن الآخر كل التعب والتحديقات ومحاولات الفرار نوع من خلاصات روحية انتهت الى خيارحاذق لرجل محترم لايسعه المجازفة بأن يبدوغير هذه الفكرة المحترمة.
العزلة باعتبارها فكرة متجاوزة وشجاعة, تبقى مجرد شاهد يمكن سرده مثل حكاية الرجل الذي في ركن المكتبة, ناهيك عن العزلة الكاملة التي تعني المكوث في البيت وحيداً دون كتب حتى.
أوذلك النوع من حكايا فنانين قضوا أيامهم الآخيرة في احدى الجزر وماشابه.الحياة بلا آخرين وليس الأمر هنا في اجترار هذا النوع من التداعي؛ اذ وطالما قد تم ترديد كلمة الآخرين فينبغي تفكيك مقولة سارتر عن الآخرين باعتبارهم جحيماً وما الذي كان سارتر يرمي اليه على وجه الدقة..
الأمر هنا في حالة بالغة الخصوصية عن تفاقم متاعب الصداقة بيننا وعن فداحة العزلة الكاملة..ولم أصادف الى الآن متوحداً أفضى الى بحاجته الملحة لتلك اللحظة الوجودية التي خلص إليها متوحد المكتبة..
تشبه فضاءاتنا حياة عذراء في ملهى ليلي..لاتملك في هذا العالم غير الملهى, ولايمكنها بحال الحياة على إيقاع الملهى...
أسوأ مافي هذا العالم هو الأفكار المغوية من قبيل الوجود والعزلة. وحين يصل أحدنا الى مرحلة كيف أتخلص من هذا كله؟ ولا يدري أي سبب يمكنه من إنجاز عزلته عدا الصمت في المقايل وإبداء الإعجاب بالنصوص والنكات. وكل يوم وفي كل مكان أعرف أناساً يتصرفون على الدوام وكأنهم على المحك.
في مقيل علي سيف, لأكثرمن عشرمرات,يحاول الجميع أن يبدون مقتضبين ومدركين,يعرفون مآلات البلد وسبل الخروج منها, يحاول كل واحد ان يبدو زميلاً وصديقاً وجزءاً من تفكير حاذق.
وأثناء ذلك يتحول الأفراد الى كتل مقاومة ذكريات سيئة فيها مآزق. أجهزة عصبية تتحاشى كل ما هو شخصي مستميتة في الا نخراط في رائحة القطيع.
ويصادف أحياناً وجود باحثات سياسيات من أوروبا وأمريكا يبذلن جهداً خارقاً في نطق مصطلحات الديمقراطية والعمل السياسي بطريقة صحيحة. ونحن نحاول التواصل. وهن متوسطات الجمال عادة.
والقطيع كله يتبرم من ضبابية الفكرة ومن الدوران حول ذات الفكرة. وسامي يتصبب عرقاً, وأحدهم يفصح لك عن ارتباطه بموعد مهم غير أن لديه فكرة عليه إلقاءها قبل المغادرة. ونغادر لسنا أصدقاء غير أن ضغائن مبهمة تتخلق في عنف الاتصال.
على مدى مساءات كثيرة والآخر يصادفك أو يتجول معك, وتكف عن محاولة ملامسة وجوده عن كثب,أو التساؤل عن ما الذي يعنيه بالنسبة لك؛إذ إن ممرات قد أعدت مسبقاً لسيركما معاً, ممرات لاتحدد المسافة بقدرما تعمل مثل لافتة قياس الاعتياد على تمضية مساء اعتيادي فيه صدفة تحدث كل يوم...
الصدفة التي تحدث بين أناس توقفوا منذ زمن عن أحلام العزلة العظيمة والخيارات المفضية للمنافي الروحية...
وهنا تضمحل فكرة (الآخر) من الأجواء النفسية بينكما, رغم اعترافكما الضمني بكونكما مثقفين غير أن واحداً لايسعى لتضييف الثاني ضمن محددات الثقافة ومصطلحاتها.
الآمر المفترض الدوران حوله في هذه الكتابة,هو تراجع أو انعدام فكرة الوجودية وشروطها المتداولة. وهو قائم في صداقات غير متطلبة للتواصل, بقدر ماهي سعي دؤوب لبناء آليات حماية. وكيف أبدو؟
يتحدث أحدهم والمصغي لايسمع كلمة واحده أثناء انهماكه في إعداد مايقوله. فيرد على ما لم يكن قد قيل البتة, وتدور التواصلات في جهد اللاوعى بالآخر..
يقوم القرويون بتطوير آلية فاعلة للغاية في التواصل, تستمد فاعليتها من التخلي عن الحذاقة والتخلي حتى عن التواصل, فيتواصلون من خلال تبادل الهواجس حول الشماتة, وحول النميمة وحول الحذر,انتهاءً بالاشارة.
يعطف أحدهم سبابة يده اليمنى المرفوعة مشيراً الى الكبروالصلف.
شفاة تزم وأكف تحتوي كل الأشياء المطلوب تواجدها.لايمكن للقروين اعتبار رجل ما ذكياً أو مدهشاً أثناء قيامه بمط شفتيه موضحاً بجلاء عظيم كم أن الشخص او الجهة موضع النقاش جدير او جديرة بالتهكم.
لايتحدثون عن موهبة ولاعن شغف. ولايفكرون في بؤس الإمعان, أو أنهم قد خلصوا مثلاً إلى اعتناق مذهب وجودي من نوع "كن أنت", لم يحدث أن قام أحد القرويين بالتنظير الدارج من نوع "يكون واحد على طبيعته" كل ما هنالك أنهم على طبيعتهم ليس قبل ورطة الثقافة ومقولاتها الوجودية. بقدرماهي مرحلة ماقبل حماية الصورة للفرد ذاته تلك الصورة المستقرة أو المفترض تكريسها حتى تستقر في وعي إنسان الإدراك والذكاء وقراءة الكتب ووضع نمط العيش في حالة تشريح دائم.
والأهم هو في هذه الملاذات البدائية التي يلجأ إليها أغلب مثقفي المنطقة آخر المكان.
ولسنا هنا بصدد الكتابة عن شغف بعض المثقفين بكل ما هو قديم على أنه تلقائي ومنسجم. نحن هنا بصدد فكرة التواصل غير المكلف أو التواصل الكامل والذي يعتقد الذهن الثقافي, رغم كل التباينات,يعتقد أنه تبادل الأفكار والمعلومات عن طريق الإشارة, هي مرحلة وجودية ليست كاملة في القرى غير أنها ممكنة؛ اذ لايمضي القرويون هذ المستوى من القطيعة التي تحدث في خميس المحامي نبيل المحمدي. ثمة جلبة تحدث على الدوام, وثمة من هو كل خميس على المحك, وغالباً مايلعب الآخر دور التهديد لصورة أحدنا في ذاته,تهديد يزعزع تلك الصورة فيتحول التواصل الى ضرب من ادعاء روح الفكاهة اللماحة وإحراج الآخر ضمن لكنة, ظاهرها التلقائية بين الأصدقاء, غير أنها تفضي إلى عداوات بين أطراف اقتربت من بعضها بزوايا حادة تماماً.
أكثر من مرة وأنا أتوحد في خميس المحمدي, فأحاول أن ألوذ بتملق مقاربات الأيدلوجيا الناصرية؛على أساس من أن لاشيء يمكنك من الرفقة مع الناصريين سوى الحد يث عن أيام مابعد عبدالناصر. أسئال عن أسماء مراكز القوى, وعن مراحل تخلص السادات من مجموعة علي صبري. ويتردد السادات مثل دهان تليين شرايين مقطوعه أصلاً...
ماشأني أنا باللواء الشاذلي,أوبأغنية نشوان للمرشدي. مع أن أحدهم لم يبين لي علاقة هذه الامور ببعضها, غير أن سياقاً من الروابط اليسارية الناصرية الأخوية تكونت في محاولة اتصال ثقافي بالغ الضراوة, يتحاشى على الدوام الاستسلام الكامل لفكرة الصحب...
وحين أخفق كالعادة متكئاً بلا نشوة ولا تواصل ولا عزلة ولا وجود. أفكر كم أن نبيل المحمدي نزيه ومطمئن.
أحدق في وجهه؛ فيطلب مني رواية ذات النكتة التي رويتها له في أول زيارة لخميسه العظيم في العام 2005م, كما أظن.
سامي لايزال صامداً... وقد كرهت أي محاولة لاختراق نظامه الدفاعي العتيد؛ فأحدق في صورة ابراهيم الحمدي المثبتة في الجدار... كنا نقطع الطريق من مركز الدراسات الى حيث يقطن جمال أنعم, سيراً بلا محاولات تواصل.كان جمال يطلق التهكمات المريرة, ولم يكن ليسعى بحال لأن يضحكني. والطريق دافئ, وجمال حقيقي بكامل قدرته على الهتك. طريق سلس.. وأظننا كنا موجودين معاً وسوية. ولا أدري متى تورط جمال أنعم في قراءات صوفية دفعت به في طريق تمجيد المحبة بين الأصدقاء. فأمسى مثل قاطع طريق سابق يمضي أيامه الأخيرة في التبشير بالإخوانيات, وذلك النوع من اقتتال أحدنا ونزعاته الروحية غير المأمونة, فيجنح إلى وضع الآخرين تحت تصنيف "أحبة".
كم كان جمال أنعم موجودا قبل أن يحب الآخرين على هذه الشاكلة!
أقوم بهذا غالباً وأتواصل وجمال موخراً من خلال نقدي الدؤوب لتصوفه الاستهلاكي.. وأغادره وأكتشفه, ويغادرني... ويذهب الأصدقاء الى الجهة المقابلة من خنادق الحذر... وصورتي وصورته.. والبحث الدائم عن وجود في دنيا لاتعطي شيئاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق