الجمعة، أكتوبر 08، 2010

كيــــف يمكـــــن سرد هــــذا الــــذي نعيشـــــه

محمود ياسين

لا أدري كيف يمكن بالضبط تحويل نمط الحياة المتبعة لدى الوسط المثقف الحزين إلى مادة سرد تنتهي إلى كشف ما الذي نقوم به بالضبط؟ وهل يمكن الإدعاء أن ترتيب الأماكن التي يذهب إليها المبدعون والقيام بسرد تفاصيل ما يحدث وما قد ينتاب أياً منهم في بوفية ما ؟ هل يمكن الإدعاء أن هذا عمل مهم وحاذق؟
منذ زمن وأنا متورط كليةً في مهمة تاريخية عجيبة , تدور تفاصيلها حول هذا الكشف المزعوم على أنه عمل ملهم وغير مسبوق, رغم إدراكي المسبق أنه لا أكثر من نصوص سرد ما ينتاب أحدهم.
يتعلم أحدنا مع مرور الوقت عادة الدأب والمثابرة في سبر غور كل ما يصادفه , سبر غور الأشياء كلها, وسبر غور الأشخاص, والانهماك كلية في الأمل بالسيطرة على مفاتيح الأغوار لإنجاز سردية بالغة الأهمية, هذه السردية يفترض بها أن تروقه آخر الأمر...
غير أن المسألة عندي وهذا هو الخطر تماماً – أخذت شكل ما وصفته مسبقاً "بالمهمة" ليست تاريخية تماماً, لكنها مهمة أخذ الوهم يجعل منها أشبه بعملية جعل كل الأمور واضحة تماماً , عندي وعند مثقفي اللعب مع الألم, وكأنني لم أعد أتألم بسبب من كوني قد سبرت أغواري وخرجت ما بين فضاءات المبدعين لأهتف بجذل : ها هو ذا.
تأخذ الحياة شكل سردية من نوع ما , فيها منهج متتالية رياضية تظهر كل مرة وهي مقتنعة تماماً أنها جديدة , وهي متتالية أصلاً ؛ لم يعد لديها سوى الدفاع عن بقائها من خلال هذا اليقين القسري بكونها جديدة ؛ يعني أن محاولة سرد نمط حياة المثقفين الحزانى , وتسمية الأماكن التي يزورونها, تعتبر عملاً جديداً وكأن فكرة إضافة اسم بوفية الدائري يجعل من هذا السرد عملاً جديداً تماماً مع أنه ضمن المتتالية ذاتها وهي "الحياة على عاتق السرد" ومن ثم سرد أشبه ببيان إدانة "للحياة على عاتق السرد"
لم يتمكن أحدهم من التخلي عن أحلام العالم الروائي وهو يبدأ من البوح وإغراء الهتك ونزع غطاء التابو. ولم يحدث في صنعاء أن قام أحدهم بالتخلي عن الأمل في أن يجد شيئاً ملهماً في حياة المبدع (الشريد المتعالي).
ولم يحدث إلى الآن أن حصلت شخصياً على مثال ونموذج لكاتب شهير تمكن من سبر أغوار الحياة, وأمضى في ذات الوقت حياة سعيدة.
ما يهم هنا هو في فكرة سرد تفاصيل نمط حياة من نوع قد يبدو مميزاً .
حياة الالتباس وإعطاء الذات الحق في الانتهاك والعودة إلى البيت متأخراً، ناهيك عن التناقض مع الذات باعتباره حقاً مكتسباً من نمط حياة في دنيا غير عادلة , ثم تأتي, في هذا الفضاء, عمليات الإقتراض اليومي وأعقاب السجائر, واقتراح برمجيات روحية وتجريبها واستبدالها ضمن آلية هذا الفرار الكبير من السطحية والتاكد اليومي من المشاركة الحاذقه في إدهاش الذات والآخر.
المشاركة في عملية إمضاء حياة ملتبسة جل ما فيها هو هذا الالتباس والتفكير فيه. على أن يحدث هذا كله وفي الأفق يلوح دائماً إغواء تحويل ما يحدث إلى سردية .. أقلب في ذهني إمكانات العالم الروائي وأدواته الأوسع شهرة, وأقترح أن فكرة من نوع "ممكن للغاية" أن تتكرر الآخوه كارامازوف في أي بلدة يمنية .. وأعود لاستحضار عوالم مئة عام من العزلة, وما سمعته عن أدب عزيز نسين التركي للغاية .. والذي تحول إلى أدب عالمي.
ثم إن ما حدث في رواية "إسمي أحمر" لأورهان باموق, كان بالغ الخصوصية, غير أن فيه بطل أساسي هو الموت الذي يعرفه العالم بأسره...
الأمر هنا في مفاضلات لأجل تلك "المهمة التاريخية" وتحاشي أن يبدو مما قلته أي شيء قد يعتبره الوسط الثقافي لمزاً لطريقة حياة في بوفيات وأعقاب سجائر والتباسات, وما ذكرته عن "السرد الذي يلوح دائماً في الأفق".
كنت أكتب وأمنح نفسي الحق دائماً في بث همومي الروائية دون أن يخطر لي حذر عواقب المباهاة , ولطالما استرخيت كلية في هذا النوع من الحوارات الداخلية المكشوفة, مطمئناً لكوني طيب القلب ولاعباً خطيراً في مربع إعادة إنتاج الالتباس وإدهاش نفسي وإدهاش بقية الفريق...
اصبحت مؤخراً رجلاً عملياً – لا أدري كيف حدث هذا – غير أن أي "شريد متعالي" لم يعد يحبني كما يبدو؛ فاجتاحتني شخصية صاحب صالة عرض, يقدر ثمن اللوحات جيداً, ويعرف الفن, غير أنه لا يدري كيف يوائم بين الرسام الذي كانه يوماً, وصاحب صالة العرض الذي أصبح عليه.
"أنا عملي" يصلح هذا في رواية تدور عن الأشخاص المتحولين كل ما هنالك أن أحدنا قد يتألم أكثر مما ينبغي؛ فيكف قليلاً عن التشرد وعن التعالي على تلك الطريقة, محاولاً النوم بهدوء نسبي أكثر من محاولة إنجاز رواية فيها سبر غور.
تدور أحداث رواية هنري جيمس "ربة المأساة" في وسط من نوع ما نتحدث عنه هنا؛ قريب من وسطنا المتطلب جداً في نوعية السعادة ونكهة اللذة والألم. ما يهم هو أن جيمس أراد في "ربة المأساة" وفي رواياته إجمالاً- وفقاً للناقد كينيث غراهام – أراد أن يقول شيئاً عن أهمية الإنجاز في واقع الحياة العملية, على أنه سيحدث فارقاً حتى في الحياة الروحية أكثر من البرمجيات الروحية المجرذة.
مجدداً: ثمة ما هو مستغلق في حياتنا, إزاء محاولات روائية قد تبدأ يوماً.
لا علاقة للتابو هنا – وليس التابو الديني أو الجنسي هو من يقف في طريق أي موهبة روائية , أو عمل روائي مقترح... وحكمي الشخصي على نمط حياة المثقفين الحزانى ليس دقيقاً حتى أنني لطالما سمعتهم يضحكون ويسعدون. ولم يحدث يوماً أن شاهدت أحدهم في بوفية الدائري, ولا توجد أصلاً بوفية بهذا الاسم.
غير أن هناك ما يجول في ذهن متقطع, شيء افتراضي له علاقة بأبجدية حياة المبدعين, وترديد هذا الكلام عن تشردهم المتعالي وعن أعقاب سجائرهم...
وكأنه فقط, لو لم يحدث سوء فهم بيني وبين أثنين أو ثلاثة مبدعين , لكنت أنجزت عملي الروائي عن نمط حياة المبدعين والتباسات فضاءاتهم بدون حذر من سوء الفهم.
الأمر هنا ليس مزحة كله, إذ إن جزءاً من المفارقة حقيقي تماماً. وها هي خلافات العلاقات البسيطة تنضم إلى تابو المحرم, الواقف أبدأ بكامل غبائه الفولاذي في طريق إمكاناتنا الروائية العظيمة.
هناك دائماً ما يحول بين الإمكانات الكبيرة, وعملية استخدامها في حياة النماذج البدائية عاثرة الحظ...
يتحول أحدنا هكذا إلى دولة السودان الغنية بالموارد الطبيعية والثروات المخزونة في أعماق الأرض.
هل يمكن للرواية القادمة من خارج ورطتنا الأزلية مع التابو ومع مشاعر الآخرين, أن تسبر أغوارنا الشخصية بمعزل عن مسئوليتنا الشخصية أيضاً – عن تلك الأغوار!
الناقص في ذلك كله ليس رواية تقوم بدور تاريخي وليس محاولة إزالة فهم عن طريق تداعيات من هذا القبيل.
وليس ما نحتاجه بشدة الآن هو البوح الأطول من هذا البوح المتقطع في نصوص صغيرة.
الرواية الغائبة ليست روايتنا لحياتنا في عدد كبير من الصفحات, بقدر ما هو غياب الإيقاع السردي للتفاصيل اليومية, غير المدونة في نص.
ثمة فوضى في كل هذه الفوضى.
الفوضى التي سمعت عنها في حيوات شهيرين كثر, هي جزء من عملية السرد المكتوب التي تصل إلينا على هذا النحو.
يمكنك سرد فضاءات لندن وبراغ, وأن تعبث دون أن تبدو أحمقاً.
هناك دائماً من يثمن فوضاك الخلاقة, ويدرك أن فيك ولديك ما هو حميم وثمين.
كائن على درجة من الإغواء, ملتبس بما يكفي لأن يبدو جذابا للغاية.
سرديات الأزقة القديمة , وسرديات ريف كولومبيا, وكل الذي تم ترديده عن ذروة انفعالات البشر وهم يختبرون عاطفة الحب والكراهية ذاتها كان ذلك كله تالياً لتحقق السرد الأساسي الذي هو في الأصل نمط حية يمكن سردها, ويمكن لالتباساتها أن تتحول إلى كلمات وعبارات وأعمال غير ملتبسة. نمط حياتنا الإبداعية (افتراضي) فيها قدر كبير من الغياب أكثر من الشك، وتتقارب فيما بينها عن طريق الذهان وليس الالتباس...
تعوزنا أشياء أساسية أصلاً , نريد أن نتحاشى التفكير في المقاربات اللاهوتية المضنية أو الانهماك فيها, وسبر أغوار أشياء يمكننا التواصل معها تماماً.
أنا لا أذكر أي لمبة كهربائية في شقتي, ولا تذكر يدي ملمس درابزين سلم العمارة , والرائحة في سلم العمارة منعدمة تماماً...
ولدي هذا فقط, أن أكثر من مثقف يقترح بإصرار إنجاز رواية كل الذي ينقصها شخص نشط- وأنا لست هذا الشخص. أما فكرة أنني أفهم المجتمع أو البيئة, أو أن أسلوبي في المقالات روائي تماماً ؛ فهذا ما لا يمكنني شرحه الآن.
أذكر أن "صفية" وهي بطلة فيلم عن حريم آخر سلطان عثماني قد ألقت لمحظية شابة بأخر نصيحة تمثل ما فهمته وتعلمته صفية من الحياة, وهي " أن المهم ليس كيف تمضي حياتك, ولكن المهم كيف ترويها لنفسك وللآخرين ".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق