الخميس، نوفمبر 11، 2010

هناك شيء غير الانهيار


محمود ياسين
sayfye@gmail.com

في هذه الحياة أشياء غير المشترك، وغير الخوف من انهيار البلد. لقد سئمنا هذا كله، والبلد لن تنهار طالما توقفنا قليلاً عن ترقب هذا الانهيار.

في هذه الحياة ثمة مباريات كرة قدم ومكاسب وأخبار جديرة بالشغف والمتابعة. ربما لو اعتمدنا لكنة جديدة في رؤية الحياة لوسعنا فهمها ومن ثم الحصول على بعض مزاياها. كأن تقرأ مثلاً افتتاحية صحيفة عن الطبخ، صحيفة يمنية بالطبع، تفرد مساحة في صفحتها الأولى عن تطور الأطعمة، وعن النكهة لدرجة تصاعد الأبخرة من الافتتاحية. بدلاً عن هذه الرائحة المملة المنبعثة من مزيج كلمات من نوع: الديمقراطية، الحراك، المشترك، السلطة... الخ.

ما عليك سوى وضع إصبعك على الحروف المكتوبة من قبل يمني حتى تعرف مغمض العينين أن هذا كاتب متحاذق بوده لو تتغير البلاد، وهو لا يكف عن نصيحة كل الأقوياء بتوخي الحذر والمسؤولية والكلمات هي هي التي كتبها ربما عبدالحبيب سالم ونصر طه وأحمد الشرعبي، حتى أصبحنا مثل رجل تورط في المطيط، ومع مرور الوقت أدمن ذلك المطيط واقترح له فوائد للجهاز العصبي، ذلك أن المتورط وحده يمكنه تملق المطيط.

يكتب أحدهم موضوعاً في "نيوزويك" عن العطلات معدداً مزايا السراويل القصيرة ذات النسيج الكاريبي، وتشعر أن هذا كاتب واسع الأفق ونزيه للغاية، إذ أن أول زميل له كان ليسخر منه عند أول محاولة من هذا الكاتب في إنجاز عمود عن سبل إنقاذ الولايات المتحدة.

مضى زمن بعيد ولم تكترث اليمن لمحاولاتنا المستميتة لفت انتباهها لكونها في ورطة. البلد تصحو كل يوم بمعزل عن الحذاقة، وتتصرف مثل رجل لا يلقي بالاً للتهويل، ولديه في أعماقه شعور حقيقي بالأمان.

يتزاحم الناس عند باب مطعم الحرازي والدجاج متراكم هناك بما يكفي لتلبية هذه الزحمة، ولا تشعر أن هؤلاء المتزاحمين مواطنو بلد على شفير الهاوية. لعل المفردات تصنع واقعاً بالفعل، وبدأت أتيقن أن ثمة علاقة بيننا وبين الانهيار من فرط ما كتبنا عنه.

أعود للفكرة الأولى وأشعر أن ثمة حاجة ملحة للتفكير بالعناكب والحشرات المهددة بالانقراض.

كيف يمكن لأحدنا حقاً الاهتمام البالغ بالاحتباس الحراري، والتجول في المقايل بأخبار السيدة ميشيل أوباما ونتائج مباريات فرق كرة القدم التي تقيمها الجاليات اليمنية في المهجر.

الأسبوع الفائت كان حديث عن شعر البردّوني قد تسلل على حين غفلة من حذاقة تقييم الوضع السياسي الراهن، وانتشى الناس بعروض البردوني وأناقته في ترتيب الكلمات لدرجة أن الذاكرة الجماعية أفصحت عن علاقة حميمة مخبأة لدى أكثر الحاضرين بقفلات البردوني المبهرة من نوع أن يردد راوية شعر البردوني صدر البيت الشهير: "أراني الآن رابية تغني" فيرد الجميع بصوت واحد: "ألا واليل دان واليل داني".

تجد الحياة طريقها للبوح والنشوة من خلال السماح للاهتمامات الحقيقية بأن تطفو على سطح الذاكرة، وأن تسمح لها بتقديم أشياء أخرى غير هذه الممارسات الزائفة التي اكتسبت زيفها من التطويل.

عندما أسمع كلمة "حدث" أشعر بالملل وتبدأ نذر التعب من الاستسلام القهري للمشاركة في شرح واستبطان ما لا يمكن شرحه.
ماذا لو ترددت كلمة فنون بدلاً من أزمة؟ ماذا لو اكتشفنا مزايا الجزر (بضم الجيم) ومزايا الاستياء الوجودي والبحث عن فرص جديدة؟ ماذا لو كتب أحدنا عن القرصنة في أعالي البحار، وعن رجل مدهش يبيع الملابس النسائية المستعملة في أروقة تعز القديمة؟

صحيح أن مهنة الصحافة هي مراقبة الأوضاع، غير أن أوضاع جلوس قيادات المشترك مع قيادات المؤتمر لم تعد صالحة للمراقبة، وهي أصلاً ليست كل الأوضاع في البلاد.

لقد أنشأ اليمنيون أوضاعاً نزيهة تخصهم في المطاعم والباصات وحين يحاولون النوم، وحين لا يدرون بأي وضعية يمكنهم استقبال خليجي عشرين. إذ أصبح خليجي عشرين دلالة عميقة هو الآخر، وتم اقتياده من فكرة الشغف والعضلات وإحراز النقاط المبهجة إلى دلالة خطيرة لذات الكتابة عن حالنا المنهار وعن كوننا شيئاً لا يصلح لغير الانهيار.

لم أتمكن أنا الآخر في هذه المحاولة من الخروج وقمت بترديد كل المفردات التي أدين ترديدها، على أن المتورطين أيضاً يملكون الحق في إظهار تمتعهم بالشغف بالموسيقى والعطلات وحتى مؤشرات أسهم بورصة لندن.

أذكر أن أياماً مضت كان فيها أناس كثيرون يخوضون جدلاً بشأن انتمائهم وتفضيلهم شركة بي إم دبليو مقارنة بمرسيدس. وذات يوم أجمع الحاضرون على المدى الذي وصل إليه صديقهم من الحذاقة والمعرفة أثناء وبعد قيامه بسرد أسماء الشعراء الذين كتبوا أغاني الآنسي والسمة، وكثير من حكايا المهاجرين الذين ركبوا البحر على إيقاع أغنية الباله.

أما هذا الأخرق الذي لا يزال إلى الآن يقطن في قريته رغم امتلاكه عمارة في الحصبة، فلا يزال في كل مقيل يستميت في سرد فوائد الثوم. وسمعت مؤخراً أنه أعلن استعداده القاطع لإثبات أن الثوم ضد الرصاص. هو أخرق حقاً لكنه نزيه.

في أواخر الثمانينات كان ما تبقى من الزباجين قادرين على الحياة على حساب الزبجة، وكان أحدهم ليبدع ويتصبب عرقاً أثناء اقتراح جملة أكاذيب لها علاقة بالنشوة والمآلات السيئة.

لم يكن أحمد الفضلي زباجاً يوماً ولا زباج أحد. هو رجل بارع وموهوب للغاية في إطلاق المزحة الإنسانية ويقوم بذلك متوجساً من أي ثري أو نافذ أخرق قد يطلب إلى الفضلي أن يضحكه.

فنان وراوية ومبتكر تداعيات، غير أن دعاباته قد تحولت مؤخراً إلى سخرية من الوضع. إن وضعاً طفيلياً قد جرنا جميعاً إلى جملة اهتماماته، وإلى تملقه ووضع كل مواردنا النفسية تحت تصرفه وقيد استخدامه.

كان أحدهم في قضية ما قد نصح صديقه أثناء وقوعهما في بلاعة، نصحه قائلاً: حاول التفكير في الزهور.

المصدر أونلاين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق