الثلاثاء، يوليو 03، 2012

منفى لأجل المزيِّن


محمود ياسين


الإساءة الوحيدة التي تحولت في حياتي إلى ذكرى تشعرني بالغبطة هي ذكرى يوم أنزلني حلاق مراهق بشارع تعز من كرسي الحلاقة ووجهي مليء بالصابون رداً على صراخي بوجهه المعكوس في المرآة.
انتزع المنشفة من صدري وزمجر: "انزل" يا للفتى الرائع!!

كل مرة أصادف حديثاً عن القبيلي والمزين أقوم بلعب دور المزين وأدافع وأستخدم لغة متعالية لمزين يستشهد بابن خلدون متحدثاً بلكنة ترف من التخلف.

في البيجو كنت استقطب بقية الركاب لصالحي كمزين متعلم يعاني ظلم مجتمع متخلف يحاول الحؤول بينه وبين حقه المشروع في الاحترام.

غالباً ما أشعل سيجارة للذي بجانبي وأحدثه بأخوية وكياسة، وأضمه لمعسكري بعد أن أكون قد وصفته بإنسان متحضر أو أن هيئته تدل على تحضره، ولا أعدم جملة قالها هذا الراكب ونحن في نقيل يسلح تدل على مستوى تقدم تفكيره عن بقية القطيع.

ذات يوم ونحن في سمارة قبل المغرب بليت بشخصية مزين نبيل أعيته الحيلة إزاء ظلم تاريخي ولعنة تلاحقه رغم وصوله لمرحلة الإعداد للدكتوراه.
أخبرتهم أن زملائي يقترضون بنطلوناتي وجزءًا كبيراً من مصروفي الدراسي والمرات التي تخليت فيها عن سريري لأجل ضيف حل على زميلي القبيلي.

أعجبتني لهجة المظلوم، ومنحتني فرصة تاريخية لإطلاق اللعنات والدموع وكان العجوز إلى جواري يردد: "لا حول ولا قوة إلا بالله".

وحين وصلت لمرحلة (حرموني من البنت اللي حبيتها لأني مزين) مدّ العجوز الطيب يده هاتفاً: مد يدك أعقد لك الآن.
في صوالين الحلاقة أحاول التقرب منهم وألمس إلى أي مدى يمكن للحلاق أن يتألم بصمت، وأقسم لأحدهم أنه لو كان معي بنت في عمر الزواج لما ترددت في مصاهرته.

غير أن سائق التاكسي البارحة وهو يسألني: أنت قبيلي وإلاَّ مزين؟ كان يبني سؤاله على تحية عابرة ألقيتها على صديقي الحلاق بشارع مازدا. وفي الطريق حاول تعزيتي بأنه حتى المزين من خلق الله، وأنه في مزينين طيبين منوهاً في آخر الأمر إلى وجوب أن أرضى بما قسم الله لي.

ليس من الذكاء محاورة سائق غبي من المحويت يعتقد أن المزاينة هم سبب تراجع مستوى هيبة محافظته عن المحافظات المجاورة، وهذه معلومة متداولة.
أخبرته أنني أفضل منه وأفضل من عائلته وهو يعتمد صبر القبيلي الذي يعرف الله ويردد: تمام الله يعينك..

ارتفع ضغط دمي وهو يصفهم بالسَّقَط ويصمت مطالباً بالفصل بيني وبينه احتراماً للعرف.

أتساءل، كل ما خضت جدلاً بشخصية مزين: كيف ستكون ردة فعل أبي؟ سيعتبرها خيانة شخصية له ولسلالته، ويتأكد لي أن الأمر ليس في مطلع ومنزل بقدر ما هو كتلة ظلم في الوعي اليمني برمته.

ساسة وحزبيون ورجال أعمال وأساتذة جامعات، وشاعر كان حاضراً أحد هذه العروض التي أقدمها. بقي الشاعر الذي يكتب قصائد يقول هو عنها إنها (تفصح عن انحيازه القاطع للإنسان) بقي يحدق في الجنبية التي ألبسها ويبتسم بتقدير ليس لانحيازي لشخصية المزين ولكنه تقدير لجنبيتي التي تدل على أني (ابن ناس) حد وصفه الغبي.

هناك تعريف أخلاقي حقير يتم تداوله بحماسة بعد أن يكون هذا المتحمس قد أكد أنه لا يحتقرهم، لكنه يعرف أنهم تربوا على "اللاعيب) وأنهم متخففون من أي التزام أخلاقي بعكس ابن الناس الذي يتربى على ما يليق وما لا يليق.

لم أعرف مزيناً دنيئاً البته.. ولم أصادف مزينة منفلتة، وكان صديقي علي من قرية مجاورة يتجول كنظام أخلاقي متكامل وممزوج بروعة الصبا وشهامة عشرينيات العمر..
غنائي حميم يساند صاحبه بقيمة الثور الذي باعه للتو..
يحب الموسيقى، ويكتب قصائد ساذجة، ويحدق في وجوه أصدقائه بشجن من يدرك كم أنهم مضطرون لظلمه.

تمور الحياة، ويبيع أصحاب السوبر ماركت اللحم وينجز أحدهم ديوان شعر ونخوض هامشاً ديمقراطياً ويبقى المزين مظلومية لا تجد لها تعريفاً في برامج المنظمات الحقوقية ولا تضميناً في مواثيق إعلان حقوق الإنسان.

في السوق المركزي بإب إبان الثورة المجيدة أخبرني صديقي وهو يتحرى إنجاز تناغم بين مقاس شعر رأسي وملامحي أنهم في ساحة التغيير بخليج الحرية اقترحوا عليهم تكوين ائتلاف للمزاينة..
كان عاتباً كأي إنسان تعشم بنبالة حدث قد يلوذ به من منفاه التاريخي..
وإذا بالملاذ يقترح عليه البقاء هناك في زاوية جديدة لمنفى قديم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق