الثلاثاء، يوليو 03، 2012

رجل القبو


محمود ياسين


عندما سألوا أحد الروائيين عن سبب تمسكه بكتابه رواية أجاب: لأن أبطال روايتي ليس في هذا العالم أحد سواي أما أنا فأكتب يوميا لأنه ليس لي في هذا العالم أحد سواكم.

أتعرفون؟ لا أظن ديستو يفسكي كان بمعزل عن رجل القبو الذي كتب عنه رواية (في قبوي).
لقد حصل عيه ديستو يفسكي كاملاً بأحقاده وتهويماته وضروب ضعفه ووحشته لأن بطل هذه الرواية (في قبوي) كان أصلاً في قبو ديستو يفسكي الشخصي وجزء من شخصيته أو أنه أحد شخصيات ديستو يفسكي المتعددة.

لا أقصد أحد شخصياته الروائية التي يقدمها للناس أنا أعني أن ديستو يفسكي كان هو نفسه رجل قبو وكلما أراده من خلال هذا الرواية هو الحصول على الرفقة مع قرائه الذين يمنحونه فكرة العائلة الإنسانية المزدحمة ولذلك كان يحدث هذه العائلة بالحنجرة العطنه لرجل القبو وهو يقدم نفسه للعالم هكذا: "أنا رجل مريض أنا انسان بغيض أنا رجل حقود أعتقد أن كبدي معتلة".

أتحدى أحدكم وضع رواية (في قبوي) جانباً بعد قراءة ذلك التعريف القبوي المتضرر بأربع جمل تقودك للتفكير في الإلهام الذي يتخطى سرد قصة إنسانية فيها حبكة وعناصر رواية يتخطى تلك المهمة الأدبية ويمنح أحدنا التشجيع الكافي لأن يطلق سراح الرجل الكامن في قبوه الشخصي ويعلن تضرره بتلك اللكنة التي تشبه ذلك الألم اللذيذ حين تضغط ورما متقيحا بحالة من التشفي والضراوة..
ما يهم هنا هو مقاربة فكرة اقتسام البوح وتبادل خرائط الأعماق الموحشة بين الكاتب والقارئ.

ويحدث أن ترسل قارئة ببضعة جمل وكلمات حريصة على صورة الكاتب "المتألم والجذاب" ولا تريد رؤيته خارج ذلك الإطار الموحي المؤثر الذي يحرمه الحق في رواية نكته أو أن يبدو ضعيفا أقصد أن علاقة شبه ميتافيزيقية تنشأ بين الكاتب والقارئ يصر فيها الأخير على الحصول على الإنسان المتجاوز لإنسانيته بما هي عليها من بشرية على قدر من الوضوح والهشاشة.

يقول كاتب مهم ومعروف أن (أنا) الكاتب لا تتجلى إلا أثناء الكتابة وهو فيما يبدو أنه حين قال ذلك عن أنا الكاتب إنما كان يدافع عن إنسانيته وحقه في التصرف كإنسان عادي أحيانا.

لكن يبدو أن قدر الكاتب هو تملق عائلته الإنسانية أو لنقل الإلتزام بمسؤوليته تجاهها ومدها بالمزيد من نصوص ملهمة مؤثرة والتواصل معها كشخص متضرر او لنقل "مريض عظيم".

لقد بقى جان بول سارتر وفيا لشخصية المتألم الجذاب حتى النهاية واعتمد بهلوانيات سردية وشراكة وتعريفات وضغط أورام متقيحة حتى أنه كشف في مذكراته (الكلمات) عن تهويمات أحلام يقظته حين يحلم أن يختفي ويتجول وحيدا بلا شهرة ولا جاذبية وتلمحه قارئة وترى في وحدته تلك مستوى أعلى من الجاذبية.

كان ينبغي على إضافة شيء مهم في الفكرة التي عن الصورة التي يصر القارئ على ابقاء الكاتب داخل إطارها بينما هو بحاجة لإنسانيته.
وأذكر بيتين للبردوني وهو يقول:
أحبتك شينا وعينا وراء وأحببت باء ونونا وتاء
وقد وعدت مرة أن تجئ وجاءت لماما ولكن متى
ويبدو أن عائلة الكاتب مثل العائلة العادية حيث لن يقبل الأطفال رؤية أبيهم يلعق الآيسكريم.

ليبقى تبادل خرائط الأعماق العطنة والإلهام هو التزام أحدنا تجاه أناس ليس له في العالم أحد سواهم
فما كان يقدمه بعض من روائيي العالم من سرديات منفعلة هو ما يحتاجه القارئ بشدة.
كأن يقول كاتب ما:ـ الغضب يبقيني يقظا فيتشفى قارئ في (النجد الأحمر) مكتشفا مزايا الغضب والجملة أصلا منقولة من سيناريو لكاتب قدم لي على المستوى الشخصي تبريرا لغضبي المتفاقم أيامها وكنت أحاول التخلص منه بلا جدوى فخلصني ذلك الكاتب من محاولاتي الفاشلة التخلص من الغضب..

يتعب أحدنا ويشعر بخواء مفزع مقزز ويتجول بهيكله العظمي وجسده المنخور مثل مستودع أخشاب مهمل ويأتي كاتب اسمه أندريه مارلو ليمنحك تواجدا ويقربك من ذاتك ببضع جمل موزعة في رواية (قدر الإنسان) على غرار كيف أن كلايبك اعترف لصديقته القديمة التي تجعد جسدها بفعل العيش في الضاحية المهملة اعترف لها بعزمه الانتحار وإليكم الجملة التي قلت أنها انتشلت الإنسان الخاوي الذاهل فور قراءتها.

"أفصح لها كلايبك عن عزمه الانتحار أمسكت بيده وشعر بتلك الحميمية التي يصنعها التضامن الإنساني تجاه الموت"
هكذا على الدوام لن تعدم الحياة من يمنح الناس سببا لاطلاق المعذبين من أقبيتهم النفسية.
ذلك يضر الكاتب في حال لم يتوخى الحذر وتورط في الالتزام بتقديم رجال قبو متلاحقين وسيضطره ذلك لاختراع عذابات شخصية كافية تمكنه من الوفاء بالتزاماته تجاه عائلته البشرية المزدحمة النهمة.
جحافل بحاجة مستمرة لبوح أو تبشير بمزايا الاستياء وكشف الذات.

وقبل أن يموت تشيخوف كان قد أصبح حزينا ومتضررا للغاية وفسر أحد أصدقائه النقاد الأمر على أن تشيخوف جعل من روحه طوال عمره الأدبي (إناء لاختبار العذابات الإنسانية).. ورغم أنه كان يفرغ ذلك الإناء (روحه) أولا بأول من القصص والمسرحيات إلا أن رواسب تلك العذابات استقرت في قاع الإناء وذلك ما أفضى بتشيخوف إلى ذلك التواجد الحزين المؤلم.

كان ديستو يفسكي ملهما ومقامرا وذا نوازع غير مأمونة اشتغل على ضروب اللعنة وأمضى حياتا قارسة تماما.
رجل نحيف ورحيم ومصاب بذات الرئة المرض الذي يتطلب حماية كاملة من أي لذعة برد.

وحينما يصادف عجوزا وحيدة في شتاء موسكو يخلع معطفه ويدفئها ليعود للبيت شاحبا يشارف على الهلاك.. تبكي زوجته بينما يكون هو ظافرا بإنسانيته حتى وهو يبصق دمه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق