الخميس، نوفمبر 22، 2012

بودي لو أسافر


محمود ياسين

لم ترقني بيروت, لا أدري لماذا لم ترقني بيروت, السبب ليس سائق السيارة إياد الذي كان يشرح لنا كل صغيرة وكبيرة من نوع (هيدا نادي – نادي رياضي) مع أن ملعب النادي واضح ولو كان الذي يراه من قبائل الزولو لعرف أنه نادي – نادي رياضي..

صحيح أنني كنت أجلس في غرفة الفندق في المساء واضعاً يدي على خدي.. لا أدري كيف أتصرف غدا مع شروحات إياد الذي يشير لي لسيارة مقفصة وبها شبابيك وقضبان قائلاً: هيدي سيارة السجن تنقل المساجين من سجن لآخر.

كان هذا قبل سنوات من الآن وكان جبل لبنان هو الشيء الوحيد الذي عزاني في تلك الزيارة وتقول لفتاة من الجبل ما شاء الله تبارك أحسن الخالقين فترد عليك (مرسي) بينما تُغضِبُ الفتات بجوارها لأنك لم تمتدح جمالها مع أن الكل هناك جميل أبيضاني, والدروز الذين استضافونا هناك هم عائلة إياد ولا يحبون الشروح كما هو حال ابنهم الذي لا أدري من أين أتى بتلك العادة.

كان نايف حسان يقهقه وأنا أسب حسن نصر الله لأجل دروز الجبل وهم يتناوبون في إكرامنا بالقهوة والكعك, فلم أجد أنني أبالغ وأنا أؤكد لهم أننا في اليمن نطلق على أي رجل شجاع وشهم وذكي ومحترم لقب درزي.

كانت بيروت في الشتاء بلا رائحة للأبيض المتوسط, لكأن البحر كان معلقاً في الركن حتى أوان استخدامه لاحقاً. نفس طقس إب ولكن بدون إياد الذي تزامن وجوده مع شتاء بيروت فأصبحت لا تطاق.

هربنا منه ظهيرة اليوم الرابع وكأننا نغافل دائناً في طريقه إلينا . قلنا دمشق والرحلة إليها ستكون ممتعة عبر سهل البقاع, كنا واضحين في اتصالنا بشركة السيارات وهو أننا نريد سائقاً أبكم فأرسلوا مرسيدس, وكان سهل البقاع أشبه بشتاء السحول, ويذكرني أيضاً بمذبحة الطائرات السورية في معركة ساذجة مع إسرائيل في ماضي القومية التي ابتليت بتحديات كسرت ظهرها العسكري.

كان السائق قد ضغط على نفسه ولم يتفوه بكلمة إلا ونحن على مشارف دمشق عندما قال "بأقل من ساعتين وصلتكن أنتو مع الشوفير.." لا أذكر اسمه.

قبلها كنت خائفاً في نقطة الحدود السورية أن يحتجزني السوريون بتهمة كتابة مقالة ضد النظام السوي في صحيفة الشارع وحين استلمت الجواز مع تصريح المرور تذكرت أنني لم أكتب أي مقالة ضد النظام السوري وربما كتب نايف يوماً ضدهم, غير أن الحدود تمنحك هذا النوع من الأوهام.

لا أذكر ما حدث في دمشق غير أننا أمضينا أربعة أيام نصلي الظهر في الجامع الأموي لأسباب مبهمة كلياً, وأذكر أيضاً أن السوريين كانوا غير المسلسلات وأنا الذي ظننت أن سلاف فواخرجي تنتظرنا على أبواب دمشق.

يتجولون بوجل وإلى جوار موظفة الاتصالات صورة لبشار الأسد مكتوب تحتها (منحبك).

في الكويت لم أكن سعيداً أيضاً, بلاد كئيبة مكتظة بالنقود وسوء الفهم, فأمضيت أغلب فترة الزيارة في غرفتي بالفندق أطلب كل شوية (ايتاليان سالات) يعني سلطة إيطالية. طعمها دبق غير مستساغ البته, بس كان عاجبني الجملة إيتاليان سالات وعندما يأتي عامل النظافة يجد أرتالاً غير مفهومة من السلطة الإيطالية.

وهكذا في كل سفر أتساءل.. أين المسرات التي كنت أتخيلها وأنا في صنعاء؟ وأمضي الرحلة في تساؤلات وجودية تدور حول علاقة الكائن بالمكان, ذلك أنني لطالما حلمت بالقفز إلى النيل في حال كنت هناك, وحينما وصلت إلى ضفة النيل كانت جثة حمار ميت هي أول ما رأيته في جريان النيل, ناهيك عن وجود فردة حذاء شيكي من ذلك النوع الذي ترتديه عجائز القرى عندنا, فردة شيكي راسية على ضفة النيل, والنيل أسود ورائحته سيئة وكانت الصدمة الأولى قد بدأت في المطار وأنا أنتظر تلكؤ ضباط المطار في منحي حق الدخول, بينما يتجولون بأضخم مؤخرات عرفها التاريخ البشري .. ناهيك عن أن المسافة المعقولة من نبيلة عبيد في المطار مكنتني من رؤية كم أن مصر قد تقدمت في السن على مراهقتي.

تحصل صنعاء على ودنا كله, كلما عدنا من رحلات كئيبة تكشف لنا حجم المبالغات السياحية التي اقترفناها.

بينما تبهجني زيارة لإب بدونما تكلف وأنا أتجول في ظهيرة السوق الاعلي أتغدى في ركن داخلي بدكان ضيق طويل كان يتغدى فيه أبي وأعمامي في رحلاتهم من القرية إلى إب, يكيلون الذرة ويجلسون هنا يشربون من نفس الجلن الذي أشرب منه, وأعب الماء مستلذاً بقاعه المصقول وغطسات وجهي في تموجات الماء.

لا علاقة للأمر هنا بمهمة وطنية, بقدر ما هو حديث خارج المهمات الوطنية عن دفئ الأمكنة التي تتعرف إليك دون عناء, أو أن إب مثبتة في خارطتي البيولوجية من الظهار مروراً بمحطة السميري والمركزي وحائط برتة السينما حيث كانوا يعلقون ملصقات الأفلام وتسمع أحدهم يطرح السؤال بنبرة استمزاج فكه (مو الفيلم؟) السؤال الذي تحول لاحقاً في إب إلى صيغة للتساؤل عن برنامج اليوم.

أو لأن إب مدينتي بين النهضة وغرف المهتدى حيث كان يقطن الطلبة ويجلس أحدهم برأس الدرج الحجري الصاعد من شارع الأوقاف إلى باب الكبير يجلس هناك مهاوزاً طالبات مدرسة أروى:ـ تدرسي؟

يقال إن سوقطرة مذهلة وأنك هناك تلامس الوجود الذي لم يمس, وتُصغي لصمت الأبدية الهائل.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق