الخميس، نوفمبر 22، 2012

أمّنا المريضة


محمود ياسين

ليس لدينا مكان آخر نذهب إليه وأنا الذي كتبت عن الهرب في لحظة قرف إلى المتجمد الجنوبي والحياة هناك برفقة البطريق.

اقترحت قبلها في لحظة انفعال بنص للبردوني من قصيدة كائنات الشوق الآخر وهو يقول:

بُودِّي لو أحيلُ البحرَ          وشماً تحت أرداني

وأرحلُ تاركاً خلفي          لأُمِّ الوحلِ أدراني

البيت الثاني تحديداً لانفعال المستاء الذي سئم كل شيء وهو يترك أدرانه لأم الوحل، وأم الوحل هذه جملة استياء ناجز، فاقترحت أن أرحل تاركاً تعبي اليمني وأذهب لدولة بادنجو أتقافز بين أشجار غاباتها العالية قاضماً ثمار جوز الهند بينما أصدر أصواتاً بدائية، مع العلم أنني لست متأكداً من وجود دولة بغرب أفريقيا بهذا الإسم، لكن المهم بادنجو وكلما خطر لي التعب تبادرت هذه المقترحات التي أدعمها في نفسي بمقولة لبودلير يتحدث فيها كيف أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أغفل حقين لم تتضمنها الوثيقة (حق الإنسان في التناقض مع نفسه وحقه في الهرب). والحقَّان يتداخلان عندي ضمن وحدة عضوية للحياة في قلب التناقض العام، فأجدني أكتب مرة عن الهرب وأخرى عن أن هذه البلاد قدرنا وعلينا المحاولة مثل أم ليس لديها سوى هذا الولد المعتوه الذي يشبه القدر، وليس بوسعها اليأس وكأن ضغط المفاجآت ودأب خيبة الأمل في كسر ظهورنا تدفع أحدنا للكتابة في الذي يشبه المزحة المأساوية التي تفضي لابتسامة رثائية تجاه ما نعيشه في بلادنا متورطين أحياناً في قدر التعايش معه.

مع أن الأمر ليس مفترضاً به أن يكون بهذه الطريقة المتعسفة لوضعنا أمام خيارين سيئين، إما التعايش أو الهرب مصوغاً بالفكاهة عن فكرة أن يتحول أحدنا إلى كنغر في أستراليا أو يصبح بحاراً في أعالي المحيط يخترع لنفسه أجواء متنوعة من حكايا ماضي القراصنة، ذلك أن هذا النوع من طموحات المغامرة البحرية أصبح تهريجاً.

قد يتناقض أحدنا أحياناً أثناء بحثه عن طريق ثالث وعن طريقة آدمية للبقاء حيث أهله دون أن يكون عليه بالضرورة التعايش مع هذه الأرتال من عشوائيات السياسة بعد علي عبدالله صالح، الرئيس الأسبق الذي يأتي التحدي الأخير الذي أعلنه حول استعداده للمناظرة كسبب وجيه يدفع أحدنا للتفكير من جديد بالهرب نجاة من هذا النوع من الترهات.

كانت يوتوبيا الفرار إلى فراديس العالم قد تركزت في حكايا المثقفين الهاربين من أنظمة القمع الديكتاتورية في شرق أوروبا وأمريكا اللاتينية، شعراء ورسامين وموسيقيين أفلتوا من قبضة الديكتاتوريات الصماء دون أن يتحول أحدهم إلى بطريق أو قرصان بقدر ما أصبحوا في بلاد الحرية التي استقبلتهم وهم ينجزون روائعهم الأدبية الفنية نموذجاً لقيمة الحرية التي أطلقت أروع ما في أعماقهم.

كانت تلك التجارب مفهومة حينما يفكر أحدنا في الشرطة السرية والقمع الممنهج في تلك البلدان، أما نحن فما نهرب غير هذا العته الرسمي لمجموعة من ساسة لا يزجون بك في المعتقل بقدر ما يفقدونك الشهية والدافع للاستيقاظ صباحاً وأنت مجبر كل يوم على التعامل مع ترهاتهم المتلاحقة.

لكننا سنبقى على كل حال. هذه أمنا المريضة ولن ندعها بين يدي مجموعة مشعوذين أقول أحياناً: يكفي هذا الاستنهاض الذي أكرره كدعوة للمثقفين أن يقوموا بدورهم وكأنني منشور دعائي ممجوج لا يفتأ يستخدم ذات الديباجة عن (دورهم) وأنا حقاً لا أملك تحديداً لدورهم، وليس الأمر واضحاً كلية لهذا الدور. غير أن هناك ما هو ناقص حقاً وأنا كل يوم اقرأ أفكاراً مذهلة لشباب لم تعرف اليمن لأسمائهم بعد ويتداولون إمكاناتنا الأفضل في حوارات الفيس بوك وحتى في المقايل.

أفكار مدهشة ورؤية، ولديهم ذلك المستوى المؤثر من أنسنة الدوافع ولم يفقدوا قدرتهم على الحلم بعد، وأقول إذن دعك يا رجل من بادنجو وليس الكنغر الاسترالي سعيداً على كل حال.

لا تزال هذه البلاد فرصة غير ضائعة تماماً.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق