السبت، يناير 05، 2013

مات عبد العليم


محمود ياسين

تضيق بنا الأرض فنهرب إلى حيث يمكننا الحياة في الحلم وبشخصيات غير ما نحن عالقين فيها، أحدهم يتصور نفسه متدرباً على الكونغ فو بمعبد في شرق الصين وآخر يعود إلى غرفته كل مساء ليعيش في شخصية محظوظ هبطت عليه ثروة تكون في العادة على هيئة أكوام من الدولارات، وعادة ما يتصرف في هذا الحلم كإنسان خير ينقذ الكثيرين ممن حوله وفي أحلام الثروة هذه يكون الشاب ماجناً إلى حد كبير.

عندما يضيق العيش بجسد أحدنا فإنه يتحول إلى شخصية عبد العليم في قصيدة محمد حسين هيثم، عبد العليم الذي مات وهو يحلم، وللدرجة التي كان يحلم فيها أنه سوف يحلم.

كان يحلم أن نساءً

وأن نهوداً

وأن مناطق معشبة بالتوقد.

أذكر أننا في مجلة نوافذ قررنا نشر هذه القصيدة وارتبكنا بشأن كلمة (نهوداً) وكيف ستكون ردة فعل الإخوة في الإصلاح باعتبارهم ممولي المجلة، وفكرنا في حيلة بائسة وهي أن ننشر القصيدة على أن نغير كلمة (نهوداً) إلى (هنوداً) على أن تبدو للشعراء غلطة مطبعية وكان ذلك تدخلاً منا في حلم هيثم وحلم عبد العليم وإجبارهما على أن يحلما بما يلائم عفة الإصلاح وعلاقته المتوترة بالنهود.

المهم في الذي خلص إليه هيثم في هذه القصيدة هو أن عبد العليم كان يتفاجأ أحياناً بامرأة حقيقية، امرأة من عقيق ونار، فكيف كان يتصرف؟

وإذا فاجأته امرأة بين أحلامه

امرأة من عقيق ونار

وجاءت تضج بكل حنين النساء إلى يومه.

كان ينسل في أفق ممعن في الهرب.

الهرب من كل الذي نرجوه ويصبح حقيقة بين يدي كائن أنهكه الهرب والعطش ويتحول طعم المسرة الحقيقية في فمه إلى رماد.

يشبه الأمر مقاربة البردوني في قصيدة (تحولات يزيد بن المفرغ الحميري)

أريد أقوم أعيا بانخذالي                   أريد البوح يعيا ترجماني

فأختلق المنى وأخاف منها                 وأشجي ثم أخشى ما شجاني

لأن مكان قلبي غير قلبي          لأن سَبيَّ أجدادي سباني

وأني لا أعي ما نوعُ ضعفي        على علمي بنوع من ابتلاني

أبوك أضاع يا أبتي حماه           وأنت وحميرٌ ضيعتماني

لقد انتهى حلم البردوني وعوالمه البديلة إلى البيت في أواخر القصيدة وهو يقول:

أراني الآن رابيةً تغني               ألا واليل دانْ واليل داني

أما عبد العليم فقد وصل لنهاية حلمه وهو ينسل من فتحة القبر بعد أن وزع ثروته بين أبنائه الذين يحلم أنه سينجبهم.

لقد مات يزيد بن المفرغ الحميري في الحقيقة لكن الحلم البردوني أبقاه رابية تغني.

 بينما كان عبد العليم هو الشاعر محمد حسين هيثم عندما اختار الموت من فرط التعب، وعندما كان الحلم هرباً من أعدائه الذين كان عبدالعليم يرتبهم في قائمة مسائية كان يحصي المذلات.

أعداؤه قلة

رجلٌ غامض في الجريدة

الغرابُ الذي فوقَ ناصيةِ البيتِ

بقَّالُ حارتِهِ

بائعُ اللحم

والعابرُ المتلفتُ

وهذا المدير الخشب

وابنُ المؤجرِ في أول الشهرِ

وابنُ المؤجر في آخر الشهر

ثم المؤجرُ في كل رشفة ماء.

ليس هذا مكاناً ملائماً لمحاولة تشبيه الثورة بالمرأة الحقيقية التي فاجأت عبد العليم بين أحلامه فهرب منها. على أن جيلنا بطريقة ما هرب من حقيقة ما كان يحلم به، لأن احتضان الحقيقة وتطويعها يتطلب خبرة عملية وليس عاطفة؛ وكانت الخبرة عند هؤلاء السياسيين الذين نخوض معهم جدلاً حول تفسير حلمنا الثوري، فهرت حقيقة الثورة إليهم تاركة لنا المضي قدماً في أحلامنا الحزينة.

وعبد العليم إذا مات

 يجمع كل بنيه الذين سيأتون من صلبه ذات يوم

 ثم يوزع ثروته بينهم

كوم الهواجس

كل رعب تكرس.

وعبد العليم عليم بكل أصول الضيافة

حتى إذا مات

 يعزي المعزين

 يوزع قهوته بينهم

 يسير مع النعش

 يحوقل

ثم ينسل من فتحة القبر

 معتذراً أنه يشغل الآخرين بأوهامه

 ويسبب للناس هذا التعب.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق