الخميس، مارس 14، 2013

عندما كنت أحلم


محمود ياسين

لا أستمزج مرويات الأبطال وهم يسردون تفاصيل حياتهم ليخبروا العالم كم أنهم متميِّزون أو لتستفيد الأجيال من تجربتهم.

غير أنني (الهيرو) حقي، يعني بطلي الشخصي.

إذ كنت في الدنوة منذوراً للضياع

شاب متلاف يبدد النقود والوقت ويمضي الأيام يلتهم القات والأحلام والكتب ويحلم أن يكون راهباً بمعبد في شرق الصين لينجو من حصار مزاج الدنوة الذي كان لا يكف عن ملاحقتي بضرورة أن أثبت عكس ما أمضي نحوه من ضياع.

كنت أحلم أن أكون ملاكماً يفوز بالضربة القاضية في الدقائق الخمس الأولى من كل مباراة ولدرجة التطويح بقبضتي أثناء الحلم وأنا أقف في سطح بيتنا.

تقمصت كل الشخصيات

مغترب في السعودية كرشه يتسع كل يوم لكبش وقدر هائل من الأرز كأي تاجر يمني في الرياض وكنت أطلق على نفسي حينها (باياسين).

أهرب كل يوم لشخصية على مقاس مزاجي المتقلب.. ناسك في التبت ومصارع ثيران في حلبات أسبانيا، بحار على سفينة في تخوم المتجمد الجنوبي أصارع القبطان على ظهر السفينة وأدخن بشراهة وأنقذ السفينة من أعتى الأعاصير مقترحاً بامتلاء وحشي أن يتوقف البحارة عن امتداح شخصيتي المدهشة بينما يسيل العرق على بطني المتغضن وأنا احتسي البيرة مستنداً لدفة السفينة

دون أن أغفل بالطبع تلك الحميمية الخفية في أعماقي تجاه ما ألمحه من كائنات البطريق الواقفة هناك بطيبة قلب على الضفة الأخرى

. كنت بائعاً متجولاً ومتصوفاً يسيل جسده وجداً على سطح جامع جدي وكنت مخرجاً سينمائياً في هوليود وفرداً من قبيلة الماوماو آكلة لحوم البشر.

وفي كل ليلة أعود لحلمي الأثير بالتجول في سان جومان باريس بمعطف رمادي وهمس رجل تألم أكثر مما ينبغي، يتأبط صحيفة الليبراسيون ويحاول التناغم بوجهه مع الأبخرة الصاعدة من فنجان قهوته.كنت في هذا الحلم الباريسي الروائي لا أذكر اسم الرواية التي حصلت بموجبها على نوبل

وكنت أتردد كثيراً بين تسلم الجائزة ورفضها.

لتفاجئني حياتي الواقعية بدراستي المتعثرة للفلسفة بجامعة صنعاء أتجول في شارع تعز بحثاً عن فندق رخيص. وأعود متعثراً أستعيد في نقيل سمارة كل الشخصيات التي حلمت أن أكونها دفعة واحدة.

كانت الصحافة طوق النجاة الذي ألقى به حميد شحرة أيام نوافذ. أصبحت أنيقاً أحدق بوجد وأسمع فيروز مستمزجاً وجودي المتناغم بين روايات أرنست همنجواى وعلاقة ملامحي بالبنطلون الجينز والفنيلة السوداء نص كم.

ما الذي أريده أكثر؟أمضيت سنوات من الوجود الذي حصل أخيراً على اللياقة والتكريم بشغف صحفي مبتدئ

لكن صنعاء ضاقت بعد سنين وبدأت أحلم بشخصياتي تلك من جديد ولم يكن من بينها هذه المرة شخصية الروائي المتجول في باريس، ذلك أنني ولسبب لا أفهمه إلى الآن كنت قد كرهت كوني كاتباً.

أيامها كنت أشبه جاروميل بطل رواية كونديرا (الحياة هي في مكان آخر) كان يحلم أن يكون اسمه (كوزافيه) وليس جاروميل وكان شاعراً يحلم أن يكون ناشطاً شيوعياً يهرب قيادات الحزب من البوليس السري الذي يلاحقهم عبر أسطح براغ القديمة.

الآن أنا كاتب، ولقد تصالحت مع الكاتب دون أن أتخلص بالضرورة من كل شخصياتي.

أناجيهم بهدوء من يلمس كينونته عن كثب، ولا أكف عن محاولة استخدامهم في الكتابة حتى أنني أمسيت مخادعاً بعض الشيء في علاقتي بشخصياتي التي كنت أحلم أن أكون عليها.

أجاريهم بنوع من الاستخفاف كأن أظهر لمصارع الثيران الأسباني شغفاً وانبهاراً بشخصيته بينما يشعر من جانبه وبعتب وأسى أن في لكنتي نبرة تهكم استخفاف وتلاعب بمصيره، ويتأكد لديه أنني أتلمسه باعتباره مُهرِّجاً بائساً فبدأت هذه الشخصيات تتسرب بحزن من تعرض لإهانة وأمسى غرضاً للاستخدام.

عندما تتراكم خبرتك وتستقر شخصيتك لا تعود بريئاً وتنشأ بينك وبين أحلامك حالة من التوجس والارتباك.


هناك 3 تعليقات:

  1. رائع صدقني يجب عليك أن تلبس فعلاً ثوب إحدى شخصياتك تلك وهو ثوب الروائي ولاشك جرب وساترى النتيجة

    ردحذف
  2. كلام يكتب بماءالذهب على جدران السماء صح لسانك ياراهب الصحفيين!""

    ردحذف
  3. كلام يكتب بماءالذهب على جدران السماء صح لسانك ياراهب الصحفيين!""

    ردحذف