الثلاثاء، مارس 26، 2013

رسالة إلى محمود ياسين


نشوان محسن دماج *

لا أدري أين سيكون موقع رسالتي هذه منك، ولا يهمني أن أدري حتى.
كل ما هنالك أن شيئاً في القلب نحوك يأبى إلا أن يقال أو يُكتب. وها أنا لا أجد بداً منه. ولْأبدأْ بسنوات خلت، تمتد ربما لأكثر من سبع، منذ أن تناهى اسمُك إلى مسمعي أول مرة. كان المقيل يومها في إب. وكان الحديث شتاتاً كعادته؛ يبدأ بنقطة وينتهي بفراغ. وما بين نقطة وفراغ متاهاتٌ شتى يكون قد كابدها الذهن. لم أثق كثيراً بما قيل حينها عنك، ولا بشبه الإجماع الذي حصلتَ عليه في ذلك المقيل بأنك (كاتب متميز). قلتُ لعله نوعٌ من تلك الآراء الجُزاف المتناقَلة صاحباً عن صاحبٍ، أو نوعٌ من تلك الإعجابات التي تزهو وتخفت بحسب نوعية القات. أضف إلى أن لدي توجساً من الأسماء الصاخبة؛ خصوصاً تلك التي تضج بها صحفٌ وأفواهُ مقيل. ومحمود ياسين، هذا، ربما لا يعدو عن كونه صورةً تشغل حيزاً ما، في صفحة ما، من صحيفة أسبوعية أو يومية. صورة لا تختلف، مثلاً، عن صورة "فلان" أو "علان". هكذا قلت في نفسي حينها. ولم أكن أريد أن أنتقص من أسماء بعينها أو من غيرها، بقدر ما كنت أشعر بأن معايشة الوسط الصحفي والأدبي ومعرفتهما عن قرب، سيما في الآونة الأخيرة، لا تؤهل المرء لأن يبدي أدنى إعجابٍ نحوهما. وإذن ماذا ستضيف لي هذه الصورة، سوى أن تشغل حيزاً آخر في ذهن ضيق لا يتسع أصلاً إلا للقليل القليل؟ فلم أهتم كثيراً حينها، ولا فيما بعد.
هناك أيضاً سببٌ آخر لعدم اهتمامي ذاك؛ وهو أني لا أطيق ذلك النوع من الأسماء التي لا تعني صاحبَها بقدر ما يُراد بها دائماً شخصيةٌ أخرى. كأن يكون اسمي (عبد الناصر)، مثلاً، وأصر على أن يكون اسم ابني (جمال)، أو أن يكون اسم أبي (ياسر)، ويُجاء بي فقط لأكون (عمار بن ياسر)، وهكذا. لا أطيق هذه الطريقة في التسميات؛ أشعر أن فيها تجنّياً على الأبناء من قبل آبائهم، حتى لو أرادوا أن يكونوا كرماء معهم. ولذا لا أستطيع أن أحتفظ باسمٍ واحدٍ لشخصين اثنين أو أكثر. فما بالك باسمٍ أحتفظ به لممثلٍ لا يعجبني! (محمود ياسين)! هل سيكون سميُّهُ أحسن حالاً؟!
لكنك كنت واحداً من تلك الأسماء التي تعرف كيف تطبق حصارها على الذهن، وتحتل حيزها، شاء ذلك الذهن أم أبى. فرغم كل تلك الأسباب التي كانت تجعلني أطمئن إلى موقفي، كنتُ متأكداً من أن ذلك اليوم، الذي سأعرفك فيه، سيأتي لا محالة. سيأتي حتى لو لم يأت؛ أي حتى لو لم أعرفك عن كثب.
وها أنا أتخيل ذلك اللقاء الذي سيعرفني بك. ستدخل علينا بتلك الصورة الملصقة على صفحات الصحف، والتي توحي للقارئ بغرور بعيد لا تستشفه العين العابرة. ستتجه الأنظار كلها إليك، وأنت تدخل بتلك الرصانة التي يتقنها برجوازي عتيق، أو التي اكتسبها فيما بعد المثقفون الجدد. وبعد أن تكون قد أخذت مجلسك، وهو الصدارة طبعاً، ومر بصرك سريعاً على من حولك، تنفست بعمق يشي بحاجتك الأثيرة إلى دفعة "خاصة" من الهواء. فلا تكاد تحرك فمك، حتى لتثاؤبٍ، إلا وآذانٌ قد أصخت بسمعها وأرهفته كأنها تنتظر وحياً. أما هكذا يريد (المُرادون) ممن حولهم؟ أن تصغي لهم قلوبٌ وآذانٌ وجوارحُ، فلا نأمةً تخرج من أحدٍ غيرهم إلا انقضّ وقعُها صاعقاً يجرح الهواء.
وشاء اللقاء أن يكون في صحيفة الشارع، وعلى غير توقع مني أو انتظار منك.
... شخصاً عادياً يفجأ الناس ببساطته وعفويته. شخصاً لا يمت إلى ذلك القابع في الصفحة الأخيرة من صحيفة (الأولى) بشيء. لكأنما ليس ثمة شيء نحن أسيرون له أكثر من تلك الصور التي نريدها أن تذكّر بنا، فإذا بها تدمغنا بسجنها المؤبد. لم يكن فيك شيء من تلك الصورة. حتى إنني، حتى تلك اللحظة، وأنت تتوجه نحوي بطريقة "استفزازية" أن أفسح لصاحبك، لم أكن أتوقع أن هذا هو محمود ياسين، الذي انتظرت لقاءه طويلاً، والذي قيل عنه إنه مملوءٌ نرجسيةً ومتخمٌ استعلاء. والنرجسية في قاموسي الخاص معناها الدم الثقيل والظل الأثقل، حتى لو كان صاحبها نبياً أو بحجمِ عظيم.
لم أعرف أنك "هو" إلا من كلام نائف حسان، وهو "يلومك" بطريقته الخاصة على "موقفك معي". مع أني اعتبرته موقفاً لا يمكن أن يصدر إلا من شخص ملؤه الطيبة والعفوية اللتان يُعرَف بهما اليمنيّ الأصيل؛ ابن القرية الذي ظل محتفظاً بكل تفاصيلها في الحديث والتعامل، غير مكترث لبهرجات المدينة وتزاويقها الكاذبة. كنتَ البساطة لا أقل ولا أكثر. ولا أعتقد أن إنساناً يريد أن يكون صعوبةً ما.
عندها فقط شعرت بخجل دفين، يمتد عمره لسنواتٍ سبعٍ، من تلك الأحكام التي أصدرتها في حقك؛ بناءً على معطياتي الآنفة، وبناءً على إيحاءات تلك الصورة التي التُقطت لك على حين غرور أو لامبالاة. بعدها سأتوجه من فوري لقراءتك بكل حبور ورحابة صدر، وبصوتك أنت، حتى صرتَ ذلك الطقس الأنيق الذي أمارسه كل يومٍ مع فنجان قهوة صباحي وصوتِ غناءٍ فيروزي.

رسالتي هذه كتبتْ على عجل، ولا أريد مراجعتها؛ خشية أن تفقدَ دَفَقَها الأول أو حميميّتها البكر.


* شاعر ومترجم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق