الثلاثاء، مارس 05، 2013

عالقون في الخندق


محمود ياسين

لم تكن هذه مهمتنا يوما، ولم تكن لعبة السياسة وقول ما ينبغي حول العصابة، وبشكل مطرد، أولوية لكاتب مثلي على الأقل.

في "الجمهورية الثقافية" كانت لنا أيام وسرديات ورثاءات، وكنا نتشكل ضمن سياق ثقافي فني يعتمد المفارقة وتفكيك ضبابية العالم الذي نعيشه، وبلغة هي مزيج من الحزن والسخرية والرفض والأسئلة. كان سمير اليوسفي يرسل بدل الإنتاج لمكتب "الجمهورية" بصنعاء، وتصل بعد 3 أشهر، وكنت أتسلم الأربعة آلاف، وكأنني محمد حسنين هيكل أواخر الأربعينيات (لا أدري متى بدأ هيكل بالضبط).

كان ذلك سهلا للقلب، وغير متعنت كما هو الحال الآن من السير في حقل ألغام عليك التحلي بالحمق الكافي لتدوس كل ما يصادفك في هذا الحقل المترامي، مفجرا ذاتك أثناء سعيك للاستقلالية والتوقف عن توخي الحذر.

أصبحنا ساسة، نحن الذين كتبنا لتسكع ما بعد المغرب، ولتملق المرضى العظام في تاريخ فنون أوروبا، روائييها والوجوديين المدهشين، نسمع في بوفية القباطي "كيفك إنته" لفيروز، ونتعرق مع الشاي بالحليب، وكان البنطلون الجينز والـ"تي شيرت" هما نحن ما عليه، وشكل حضورنا في عوالم صنعاء، وهي تحاول من خلالنا إنجاز فجوة صوب مساءات عواصم الفنون، ودور النشر وحكايا صعاليك الفن المدهشين، رثاءاتهم لذواتهم، وإدمانهم للسخرية والهتك وتعرية الذات، ونكتب ولا يفهمنا أغلب من يقرؤون لنا الآن آراء في رجال الحكم والحزبية المملين جدا، ونحن متورطون في التعامل مع هذا الكم من الملل الذي أصبح منظومة حكم.

اكتب عن راعية ترقص بحرف الحيد، ولا يراها غير الكسب، وكسبة عجوز تجشر ولا تكترث. اكتب عن دراويش متخيلين في قراك، وعن وجيب قلب امرأة لا تدري أين تذهب من مساءاتها بلا جنسانية ولا رائحة آباط.

اكتب عن نبيذ العالم، وكيف أن العالم مغلوط بنته الشركات متعددة الجنسية وفقا لألبير قصيري؛ الروائي المصري الأصل، والذي قضى نصف قرن مستأجرا غرفة واحدة في أحد فنادق باريس المتواضعة، ألّف كتاباً في مديح الكسل و8 روايات من بينها "الرجال المنسيون من طرف الإله". نصف قرن في الغرفة بدونما عارض لمرض الأسف على حياة النشاط والاستقامة. لقد أمضى سرديته الشخصية، ولم يكن عليه حتى الإحساس بالسأم، ويقول في مقابلة نشرتها مجلة "نزوى": "أنا أجلس في المقهى بعد أن ذرعت السان جرمان، أجلس وحيداً أقرأ "اللوموند"، وأحدق في سيقان الباريسيات. ولا تعتقد أنني بهذه الوضعية الصامتة، وقد تجاوزت الـ80 عاما، كهل يشعر بالسأم. لا، أنا في حضرة ألبير قصيري.

لم يعد أحد ليجد الوقت الكافي لاقتفاء خطوات أحمد بن علوان، على أمل التقاط ومضته الخاصة على سطح مسجده بيفرس. من يكترث للبرع ومهاجل القرويات في مدرجات العلان، وغتر الذكور المغتربين. لا أحد حتى قادر على البحث عن أجوبة حول ما يحدث الآن من خلال النبش في مخطوطات مؤرخي اليمن وفقهائها المجتهدين. بسرعة بسرعة أنت مع أو ضد، وأصبح لدينا الآن رئيس سابق على أهبة الإنجاز الاستقطابي لتفريخ الزمن القادم بجملة من الشماتات ومراكمة الأخطاء وارتداد الذهنية اليمنية لقراءة سلسلة هجاءات بين معسكرات كثيرة تقدم نفسها للمهتم اليمني على هيئة معسكرين يتبادلان الضغينة والفجاجة.

لا تقل لي إن الانخراط في المزاج هذا هو مهمة وطنية مقدسة، إذ إن لدينا وجودا ولكنة تدين ببقائها لاستيهامات الفن ومفارقات حكايا التاريخ.

لكننا متورطون كلية في إعادة إنتاج النمط، وكلما حاول المزاج اليمني الإفلات من قبضة الهجاء السياسي إلى حيث يمكنه استمزاج اللايقين الفني الجذاب، أعاده السياسيون للعمل في الخندق.

وكأنك سليل عائلة تعتقد نفسها عريقة، وكلما تسللت لحلقة رقص ومزمار، أرسل جدك من يسحبك من أذنك.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق