محمود ياسين
أريد كتابة مادة تروقني – مقالة فيها شغف وحظ وتحريض متأنق.. إنه من المهم لأحدنا أن يبدو مدهشاً (لنفسه على الأقل).. رياضة روحية من نوع هذه المقالات التي لم تعد تجد مكاناً في حذرنا الدائم.
أن تتوخى الحذر تصبح مع مرور الوقت مملاً بعد أن تقضي زمناً تكون فيه غامضاً. يا الله كم هو مهم ذلك المران الذهني، وأن تجعله يدور مثل منشار يشكك في كل شيء، ويتعالى ويخلصك من الحسابات المقفلة والطرق المسدودة.
في دنيانا هذه لا ضمانات مهما كنت حاد الذكاء، وغالباً ما يصطدم ذهنك في كل منعطف بلوحة تحذيرية. لكن تلك المقالات محاولة لفتح فجوات في ممرات حياة حياتنا المصمتة، ويفتح فجوة في جدار الزمن، وتحلق وتروق نفسك، وتعتقد أن ثمة ما يربطك بالروائي كمبروفيتش، وكيف أنه بوسعك الحصول على مساندة ومباركة لمرونتك وشكك وبراعتك في جعل أغلب الحقائق أقل جلاءً مما تبدو عليه.
يقوم كمبروفيتش في واحدة من حواراته الأدبية بنبذ التواضع مفصحاً عن قدرته في النيل من كل شيء، وأن ذلك مكمن براعته، وكيف أن لا أحد يمكنه إيقاف كمبروفيتش وهو أثناء حذاقته المفرطة وسلسلة احتقاراته لما يتمسك به الآخرون من ضروب المثل الأخلاقية والمناهج الفكرية. ويبدو أن أغلب من قرأ الحوار ذاك (ترجمة مجلة نزوي) قد شعر أن كمبروفيتش قد تعالى عليه كأي رجل قاسٍ لا يمكن لأحد إيقافه.
لم تعد تلك البراعة في أوروبا حكراً على الشريد المتعالي الذي ليس لديه ما يخسره. كان ذلك في الماضي قبل أن يصل الفن إلى المرحلة التي تخلص فيها من التزامه الأخلاقي، ولم يعد أحدٌ يطالب الروائيين بالتبشير بأي شيء...
إنه لم يعد أمر التهكم هذا، وبراعة الإشارة بإصبع مرتابة للثوابت، حكراً على المضامين فحسب. إنه شخصية متكاملة، أسلوبية مكتظة بمفردات زج بها المتهكمون العظام في القواميس ضمن تدخلهم في مفردات الحياة برمتها.
ربما جرني كمبروفيتش إلى هذا الكلام الذي يبدو عميقاً وغامضاً، وربما زججت به في المقالة من قبيل الحذر من أن أبدو مهرجاً- حيث إنه يجدر بأحدنا جلب أناس من أطراف العالم يقول إنهم عظماء، ويجعلهم يشهدون لصالحه.
كنت أحظى في البوفية بعد المغرب بخريج من كلية الإعلام لا يدري كيف يعبر عن إعجابه بأسلوب النيل من الأشياء التي لا تكف عن تهديده.. ويتصل أحمد السلامي ليؤكد أهمية الإفصاح في مقالة كتبتها لـ"الثقافية" عن حق الإنسان في التناقض مع نفسه. وكان أحمد أيامها بحاجة ماسة في ما يبدو للتناقض مع نفسه، وكانت المقالات ملهمة لبعضهم، ومنحتني صداقات ذكية، وكنت أشعر بالارتياح وأحسني خفيفاً وتهديداً لبعض مظاهر الحياة.. وأن يتجول أحدنا بعد مغرب صنعاء معتقداً أنه يهدد بعض مظاهر الحياة، برفقة كونديرا وإيزابيل اليندي، دون أن يؤلف رواية واحدة، فذلك لأننا ذات زمن كنا شجعاناً من ذلك النوع من بشر لم يتورطوا في فضيلة التواضع.
صحيح أنني لم أهتف يوماً "آه رواية جديدة لميلان" بنبرة من رفع الكلفة مع الاسم الأول لرجل بودك لو تكون لعيناً مثله! بذات القدرة على القسوة التي مكنته من سحق أناس كثيرين أثناء سحقه لأنماط حياة في موطنه (تشيكوسلوفاكيا). ويبدو أن (تلك الأنماط) قد أهانت ميلان ففرغ في ما بعد للانتقام. مؤخراً أقرؤه بنضج وأسايره بحذر شديد كما اعتدت مؤخراً أثناء التجول برفقة الأفكار التي تتصرف مثل مراهق ماتت عائلته مؤخراً.
هناك دائماً ما ينطوي على مخاطر التصديق.. وفي لحظات استثنائية أرفع الكلفة والحذر تماماً مثل محارب قديم يتلمس دروعه بكبرياء.
أصبحنا ساسة مخلفين أساليب المقالات المدهشة لزمن يبدو أننا وجدنا له الآن وظيفة ماضي العقلاء الذين يقلبون أوراق ماضيهم بابتسامة لطيفة.
كان ذلك الأسلوب أكثر جدوى، وإن لم يجد من يقرأ هذه المقالة ما يذكره شخصياً بأنني كنت هذا الذي أتحدث عنه على أنه المتهكم العظيم، فهذا لأن لا شيء يمكن تأكيده، ولا يبدو أنه من الحكيم أن يستميت أحدنا في إثبات كم كان بارعاً...
لقد ذهب كل شيء، وأظنه كان بوسعنا الاحتفاظ بعملنا المدهش في تقديم تحريض متأنق تخفف من ألم جيل من القارئين المستعدين على الدوام لمحبة ثقافة من لا شيء لديه ليخسره.
لا أكثر حمية من مقولات التحقير الذكية لكل ما يتهدد حياة من لم يحصل على وظيفة بعد.
من لم يُكوّن إلى الآن خلية حزبية ولا عائلة، وليس لديه آخر الشهر أية ضمانات، وهو ملاحق على الدوام، وبوده لو تشتعل حرب، أو يثبت أحدهم أنه ليس على الشاب أن يثبت شيئاً لأحد. بوده لو يؤمن وأن يتمكن من الانتقام على أن يقوم بذلك بمفرده. الوحدة تنطوي على مخاطر تحذر جيلاً بأسره من فعل أي شيء.. لا يجد أحدهم من يتواطأ معه على نبذ المجتمع والسير معاً في رحلة وقحة نحو الخلاص.
إن تثاقفنا أصبح عاقلاً يشتغل على ثوابت في الأغلب، وكانت اللغة، والأسلوب تحديداً، قد لعبت دوراً أساسياً في تجارب أمم الغرب، وكانت التطبيق العملي والملهم لتجارب التغيير.
وعندما فرغت الرايات من أوصاف الطبيعة (كأن يقال مثلاً طبيعة رائعة، أو قاحلة) وجد أوروبيون كثيرون كلمات جديدة جديرة بالرفقة في زمن يحتاج للكنة جديدة للتحريض.
أخبرني أحدهم أنه ترك عمله في حراسة أحد المصانع فور قراءته مقالة عن الاستياء وتجريب خسران العائدات القليلة.. لن أشير هنا إلى براءتي من لعب دور الأب المخلص... ذلك أنني خلصته بالفعل، وكان يردد أثناء ذلك الخلاص كم أنه عاجز عن تحديد ما الذي حرضه على وجه الدقة. ولا يزال إلى اليوم يناديني بالأستاذ. صحيح أنه لم ينجح في الحياة، كما يعتقد هو، لكنه لم يعد يحرس شيئاً لا يخصه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق