الخميس، يناير 24، 2013

يريدون تصحيح "خطيئة تاريخية" وليس خطأ شمالياً


محمود ياسين

لا إيضاحات هنا ولا رد على نبيل الصوفي بشأن ما كتبه في صفحته كتعقيب حاذق على مقالتي "سئمت تملق الجنوب"، يقول نبيل إن هناك من يستكثر على الجنوبيين كلمتهم التي ليس لديهم غيرها، وإن الجنوبيين لم ينهبوا أرضا ولم يمارسوا شكلا للتعسف، ولديهم فقط الصراخ، ونحن إذ نكتب نعود لشماليتنا.. أو هكذا فهمت ما نشره في صفحته بـ"فيسبوك"، وأظنه يحب الجنوب أكثر من أي منا، ولدرجة الوظيفة التي يقوم بها رجل الانحياز الكلي لفكرة العدالة، ولمظلومية مكان معين، ذلك حقه فعلا، لكن نبيل يقول نصف الحقيقة الجنوبية التي هي مظلومية حقا، والجنوبيون لم يقوموا بالفعل بممارسة النهب الممنهج المستقوي بالمؤسسة الحكومية الرسمية، ذلك أنهم بالفعل تعرضوا لذاك النهب الممنهج، لكن ليس بوصفهم جنوبييين، ولم يكن ذلك الاستقواء والنهب شكلاً من تقصد شطري يستضعف الجنوب أو يعاقبه ويسخر منه.

كانت أراضي الدولة القابلة للنهب موجودة في الجنوب الذي احتفظ بها، وكانت شهوة النهب قد وجدت المرعى الواسع الذي بقي مسيجا، وبكامل موارده، فانطلقت فيه الديناصورات بنهمها الأعمى البدائي، تلتهم وتكز على أسنانها بتغول بدائي، وليس بعقيدة سياسية.

الأهم من هذا وذاك، أن سأمي لم يكن أنين المظلوم، بقدر ما هو سأم احتكار المظلومية وتصنيفها مناطقيا، وتصنيفنا كبشر على شطر بدائي شمال يعج بالديناصورات.

وكان امتعاضي من شكل الاستعلاء بالمدنية التي منحت هكذا لكل ما هو جنوبي، ويمكنني هنا توضيح هذه الجزئية في علاقة شخصية بأحد أبناء الحبيلين، تعرفت عليه في زيارة لخالته بضاحية إب، وهو قد أصبح يتابع اسمي ومقالاتي، وبقي يصنفني كشمالي محترم يكتب لصالح الجنوب (هكذا كان يصنف ما أكتبه على أنه يشعر أن فيه معاونة للجنوب دون أن يتبين له تفاصيل ما أكتبه أو يدركه تماما). كان ذلك حتى أظهرت سأمي من تملق الجنوب في المقالة الأخيرة، ولطالما بقي حسان يوافيني بشهادته المهمة لكوني مثقفاً، ولا يكلف نفسه أي جهد ثقافي يؤهله حق منح هذا النوع من الشهادات، وبقي متمسكا بإظهار دهشته مما يظنه تحضري وثقافتي رغم شماليتي، ويستغرب بمحبة في كل اتصال.

هو متحضر ومثقف لمجرد أنه ولد في الحبيلين، ودرس الثانوية في عدن، واستكمل دراسته في الاتحاد السوفيتي، يعرف نزار قباني، ويسمع عن محمود درويش، ولطالما أظهر دهشته من كوني أسمع أغاني فيروز، وهو حقا ينحاز لمدنية الجنوب التي ورثها كإحدى المسلمات، وباعتبارها تعريفاً لهويته كلما لامست هذه الهوية فكرة الشمال، إذ لا يمكنه مثلا اعتبار نفسه مدنيا بالمقارنة مع طالب كوبي يجلس الى جواره في أحد مدرجات جامعة الصداقة بموسكو. لطالما حدثني عن أهمية مقاومة أصحاب سنحان بالسلاح، وأنه قد يخلع نظارته الطبية، ويقاتل، وحين أخبره بتملق أن من حق المظلوم اختيار ما يناسبه من أساليب في مقاومة الظلم، يدرك أنني لا زلت متحضرا. وبالتالي والمعضلة التي حاولت مقاربتها يا سيد نبيل في المقالة هي هذه "تورطنا في مباركة خطأ بعض الأساليب الجنوبية في مقاومة العسف"، لنمتلئ قليلا بأناقة المتحضر أو شخصية الضابط الإنجليزي المحترم الذي رفض إطلاق النار على المتظاهرين في عدن، هو ضابط متحضر وإنساني، لكنه إنجليزي على كل حال. وذلك ما قصدته بالتملق عندما رضخنا ذهنيا لفكرة أن أي شكل للوجود الشمالي في الجنوب هو استقواء وجزء من جريمة تاريخية.

لست هنا لتبرئة ساحتي بإيراد المزيد من الاعترافات، وسرد أشكال العسف التي تعرض لها الجنوب على كل المستويات، وهم بالفعل الآن إزاء أشكال العسف لديهم أكثر من مجرد الكلمة وأنين المظلوم، ربما لم تنفجر أعمال العنف تماما، غير أن الأداة الجنوبية أصبحت كلها مشروعة وقيد الاستخدام من الكلمة إلى البندقية. هم تعرضوا للعسف، وربما أكثر قليلا مما تعرض له الناس والأرض في الحديدة، وربما تمكنوا من إقناع الذهن اليمني بمشروعية فك الارتباط، لكنهم لم يُظلموا بوصفهم مدنيين، ولا يمكنني القبول بحقهم في فك الارتباط بوصفهم الكائن الأسمى، ناهيك عن عدم قدرتي على تجاهل أن فك الارتباط سيلحق بحياتنا ضررا فادحا، ناهيك عن هول انتهاء وحدة البلد.

لديّ ما أقوله في تعريف شخصي لما يحدث الآن في الجنوب، وعلى أساس من اعتقاد شخصي أن هذه القوة التي تقود خيار الجنوب، هي ليست التتويج النهائي لكفاح البسطاء المظلومين، رغم وجودهم الكثيف في الحشود، لكنها أيضا الفعل الناجز لكل الإرادات الكامنة التي قسرها الحزب الاشتراكي على التوحد في دولة الحزب، أواخر الستينيات أولا، ومن ثم جر الجميع للوحدة الاندماجية المتعجلة مع الشمال، وبأداء غير يقظ اعتقده الجنوب لاحقا مشروعا سياسيا غير متكافئ، وضمن تحالف مرتجل لكل ورثة سلطات تاريخ الجنوب ونفوذه، بمن فيهم السلاطين وقادة معسكر الجنوب في حرب صيف ٩٤، إذ لا تجد أن كل أسماء وقيادات الاستياء الجنوبي خرجت من رحم الرفض للظلم الشمالي كالخبجي وباعوم، فلقد خرجت أغلب الأسماء القيادية من تاريخ نفوذ الجنوب، وليس من إحساسه بالظلم. هؤلاء ليسوا عنوان الحراك الكلي، بقدر ما يمثلون بنفوذهم وارتباطاتهم وطموحاتهم الرافعة الأهم لفعل لا يمكنني اعتبار غايته التشطيرية حقا قانونيا أو أخلاقيا ممثلاً بفك الارتباط. ذلك أن الحدث يتجاوز الرد على الظلم وتصحيح خطايا "شمالية"، إلى تصحيح ما بدا لاحقا خطيئة تاريخية.


هناك تعليق واحد:

  1. الاستاذ محمود.
    كلامك منطقي وصادق ولكن الجراءه علي قول الحقيقه تزعج بعض الناس الذين يريدون ان يكونوا نموذج المحبين لاءن الموضه هذه الايام
    تتطلب ذلك

    ردحذف