الجمعة، فبراير 15، 2013

الكتابة في البرزخ


محمود ياسين

أذكر مقولة لكمبروفتش؛ الكاتب البلقاني، والروائي، في حوار نشرته مجلة "نزوى"، وهو يرد على أحد الأسئلة التي تبحث في علاقة نتاجه أو رواياته الأخيرة بالقارئ، وكان السؤال يبحث في مدى تمتع كمبروفتش بالالتزام بجدية الموضوع الذي يطرحه، بينما كمبروفتش المزاجي الذي يشتغل على لكنة فنية شغوفة وقادرة على خض القارئ، أجاب على ذاك السؤال إجابة طويلة أذكر منها أنه قال: "أنا جذاب بهلوان متماجن لا يسعني إلا أن أروق".

تحاول الكتابة الجديدة ليس مجاراة العروض الفنية الجاذبة بهذه البساطة، ولكن هذه الكتابة تسعى للتمتع بالقدرة على الإغواء القرائي. تجعلك كقارئ على درجة من الخفة، والقليل من التهكم، وتمنحك مكاناً مرتفعاً قليلاً لترى منه العالم ولست عالقاً فيه.

غالباً ما يستخدمون عبارات متخففة من أي جهد يقيني، ولا حتى الغور في أعماق الأشياء والموضوعات، هي تطرح أسئلة أكثر، وتمنح القارئ هذا المحفز المتسائل بامتلاء من ينأى بذهنه عن جهد اقتفاء أثر الحقائق القاطعة.

لذلك تجد بعضنا هنا في اليمن يحاول محاكاة مزاج الكتابة الجديدة، المتخفف من عبء التحليل والتنظير، ليكتب ما يمكن للقارئ من خلاله مثلاً إدراك -ليس حقيقة الوضع السياسي- ولكن إدراك حالة اللاإدراك، باعتبارها محصلة لوضعية سياسية أشبه بالبرزخ، حد وصف عبدالحليم قنديل لوضعية مصر الآن البرزخية، وهي حقاً في بلادنا وضعية برزخ تسيطر فيه الحيرة والحصول على أي يقين تجاه ما نمضي إليه، أو ضمانات من أي نوع لكوننا انتقلنا أو بصدد الانتقال لوضعية أفضل. وفي هذه البرزخية يراود البعض حنين زائف للماضي، أو حنين حقيقي لأيام علي عبدالله صالح، بسبب من الوقوف على أرضية رجراجة، والذهن العام مغلف برؤى غامضة، وليس برؤية. وهنا يكون للكتابة شكلها الموارب هذا، وتكون أقدر على تمثل روح الفن حتى في الكتابة عن السياسة، ذلك أنه لا أعز على الفن من الحيرة والقدر الإنساني العالق بين مرحلتين ضمن حالة من تضارب المشاعر في طريق المجهول.

وبما أن الموضوع أصلاً كان مقاربة لفكرة ما الذي تقدمه للناس وكيف تكتب. وهو ما يجعل أحدنا يمتعض أحياناً من هذا الهول في استسهال الكتابة وتقديم مقالات مملة تعيد ذات العبارات التي تكون قراءتها أشبه بتناول علاج السعال، أو محاولة أكل رشوش شيباني بايت وكأنك تلعص تيوب.

لا أحد تقريباً مستعد لإعفاء نفسه وإعفاء القراء من تجشم عناء ادعاء الوضوح التحليلي لوضع سياسي مستغلق غير مستقر، وغير قابل للاستنتاج القاطع، ويقومون بالمزيد من التحليلات القسرية التي لا تملك شجاعة الإفصاح عن الحيرة، أو مقاربة السياسة بالأسئلة، وليس بالجزم.

يدفعك إغواء الكلمات والموسيقى الداخلية للعبارات، لأن تبدو أحياناً كمن اعتاد قراءة البيانات القاطعة، وكأنك لست متمترساً بموقف واضح. مع أنه قد يكون هذا الموضوع الذي كتبته، هو محاولة منك لمجاراة صوت الناس وحيرتهم، ضمن سعي شخصي للإفصاح عن هذه الحيرة تجاه ما ينويه عبد ربه هادي مثلاً، أو وظيفة المشترك المحيرة، أو ما سيؤول إليه أمر الجنوب وهو يريد الفكاك من شمال لم يعد موجوداً، يمكن اعتباره طرفاً لفك الارتباط معه، ويفهم الجنوبيون أنك ضدهم، أو أنك ملتبس نوعاً ما، وما نختبره هو الوضع الملتبس، ولغة أحدنا في المقالات تحاول مجاراة هذا البرزخ المؤلم والمربك. على أن برزخ مصر يتضمن قوة دافعة، صحيح قد تقوده لمجهول كبير، غير أن مسؤوليتها ستكون جلية وغير قابلة لإلقائها على أحد.

أما نحن فنعيش في غارة برزخية تحكمها الريبة والغموض، ولا شيء يدفعها لأن تخطو نحو حافة هاوية أو بوابة فردوس.

ذلك أن التدافع في حلقة دائرية لا أحد مسؤول فيها عن أي مصير، ولا يتوجه هذا التدافع صوب وجهة، بقدر ما هو صوب داخله، ونحن نكتب عن هذا، والبعض يكتبون عن بيانات بلغة تدعي استظهار كنه الأمور، ويصبح أمر قراءة ومتابعة المقالات عملية لعص إضافية أثناء مشاهدة فيلم ياباني بلا ترجمة، عن متحاربين كلهم ملثمون، ولا تدري علام يتحاربون.

غير أن المحاولة هنا في كتابة أسئلة قد تمنح الكاتب القليل من دفء التواصل مع الناس عبر جعل حيرتهم وفوضاهم الذهنية شيئاً معقولاً من خلال الكتابة عن هذه الوضعية. ذلك أن الكتابة المتسائلة في البرزخ تجعله في المتناول.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق